الخميس، 9 أغسطس 2012

علي مع الحق، فلنكن معه.. ح2: فضربة بضربة

صوت الثورة

بسم الله وبالله والحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله، محمد بن عبدالله، وعلى أهل بيته الطاهرين الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا..

تحدثنا في الحلقة الأولى من مقالات (علي مع الحق، فلنكن معه)، والتي كانت بعنوان (فزت ورب الكعبة)، حول معيار الحق وماهية الفوز والنصر الإلهي، من خلال النظر في بعض أحداث ما قبل ضربة اللعين ابن اللعين عبدالرحمن ابن ملجم المرادي للهامة الشريفة. وفي هذه الحلقة، وهي الحلقة الثانية من مقالات (علي مع الحق، فلنكن معه) نستعرض بعض مظاهر وصية أمير المؤمنين لابنه الحسن الزكي عليهما ونبينا الكريم أفضل الصلاة والسلام.



قال أمير المؤمنين عليه السلام بعد جملة من الوصايا للإمام الحسن الزكي عليهما السلام، بعد أن ضُمِّد جرح رأسه: "فإن أنا عشت رأيت فيه رأيي، وإنا أنا مت فاضربوه ضربة ولا تزيدوه عليها" (مقتل أمير المؤمنين 23:40، المناقب للخوارزمي 403:388، الفصول المهمة 134، كشف الغمة 59:2)..

إن من ينظر في سيرة علي عليه السلام لا يجد غير العدل والتقوى، فهاهو يعلن منهج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن آلت إليه الخلافة: (أيها الناس، إنما أنا رجل منكم لي ما لكم وعلي ما عليكم، وإني حاملكم على منهج نبيكم ومنفذ فيكم ما أُمِرتُ به، ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مالٍ أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإن الحق لا يُبطله شيء ولو وجدته قد تُزُوِّجَ به النساء ومُلِكَ به الإماء وفُرِّق في البلدان لرددته فإن العدل سعة. ومن ضاق عليه الحقُّ فإن الجور عليه أضيق. أيها الناس ألا لا يقولن رجال منكم غدا قد غمرتهم الدنيا فامتلكوا العقار وفجروا الأنهار وركبوا الخيل واتخذوا الوصائف المرقعة إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون حَرَمَنا ابن أبي طالب حقوقنا...).

هو ذاته علي بن أبي طالب عليه السلام القائل: (لم يكن لأحدٍ فيَّ مهمزٌ، ولا لقائلٍ فيَّ مغمز، الذليل عندي عزيزٌ حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه، رضينا عن الله قضاءه وسلمنا له أمره).

هو ذاته علي بن أبي طالب عليه السلام الذي احتكم للقاضي وهو في موقع الخلافة والقاضي عامل من عماله في خصومته مع اليهودي الذي سرق درعه، فلما كان حكم القاضي لصالح اليهودي سلم عليٌ عليه السلام لحكم القاضي لأنه أخذ بأسباب العدل في حكمه..

هو ذاته علي بن أبي طالب عليه السلام الذي دخل عليه جماعة من المسلمين يوماً فقالوا له: لو أعطيت هذه الأموال، وصلت بها هؤلاء الأشراف ومن تخاف فراقه، حتى إذا استتب لك ما تريده عدت إلى ما عودك الله من العدل في الرعية والقسمة بالسوية. فأجاب عليه السلام: أتأمروني أن أطلب النصر بالجور في من وُليتُ عليهم من أهل الإسلام؟ والله لا أفعل ذلك. لو كان هذا المال لي لسوَّيتُ بينهم فيه، كيف وإنما هي أموالهم؟!

لقد كان سعي علي عليه السلام طلية عمره الشريف، حتى عندما اغتصبت الخلافة من بين يديه، سيعاً دؤوباً لإحقاق الحق وإرساء مبادئ العدل، لذلك لا نجد في الأمر غرابة إذا ما رأينا كل منصف يذوب في شخصه وإن كان على خلاف دينه.. فهاهو الشاعر المسيحي بوليس سلامة في أبياته الشهيرة يصدح قائلا:
هو خير الأنام من بعد طه
ما رأى الكون مثله آدميا
يا سماء اشهدي
ويا أرض قري واخشعي
إني ذكرت عليا

وكما كانت كل حياته نموذجاً للعدل الإلهي، كانت ساعاته الأخيرة.. فبالرجوع لمقطع الاقتباس من وصيته لابنه الحسن عليهما السلام عقب أن فلق ابن ملجم اللعين هامته بالسيف المنقوع في السم، نجده عليه السلام يقول: "فإن أنا عشت رأيت فيه رأيي، وإن أنا مت فاضربوه ضربة ولا تزيدوه عليها"..

تكريسٌ وتعزيزٌ وتأكيدٌ على مبدأ العدالة (فاضربوه ضربة ولا تزيدوه عليها)، هي ضربة بضربة، فإن مات منها كان ذلك جزاؤه وإن نجى فذلك هو القصاص الذي أمر الله به.. غير أن ذلك الحكم قد جاء مسبوقاً بقوله عليه السلام: "فإن أنا عشت رأيت فيه رأيي".. وهنا التفاتة في غاية الأهمية لابد من الوقوف عليها.. فعليٌ عليه السلام إنما أراد بتلك الكلمات البالغة الأهمية أن يؤكد على أن صاحب الحق هو فقط من يملك التصرف فيه فإن عفى أو عاقب فذلك شأنه، ولا يجوز لغيره التصرف في هذا الحق.. "فإن أنا عشتُ رأيت فيه رأيي"، قد أعفو أو أقتص، وأنا فقط من يملك هذا الحق الذي وهبني الله إياه.. أما "إن أنا مت فاضربوه ضربة ولا تزيدوه عليها"، لتكونوا بذلك قد التزمتم حكم الله في القصاص، وهو أحد مبادئ العدل التي سنها الله تعالى.

ولعلنا نلحظ هنا أن الموصي هو الإمام عليه السلام، والموصى له هو الإمام اللاحق له.. أفلم يكن الأولى أن لا تكون الوصية في ذلك، باعتبار أن للإمام ولاية مطلقة، فيجوز له العفو أو الحكم، علاوة على كونه الوريث صاحب الشأن في أمر والده؟!

الإجابة بإيجاز شديد هي أنه لو لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام قد أوصى بما أوصى، لكان الحكم من الإمام الحسن عليه السلام كما قال أمير المؤمنين، ذلك أنه إمام عادل اصطفاه الله فعصمه، وأنه أخذ مواريث النبوة والإمامة عن إمام عادل اصطفاه الله ففضله على سائر مخلوقاته عدا سيد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.. فالعدل سجيةٌ والتزام لا حياد عنه.. وبذلك تكون العلة في الوصية هي بيان حكم للعامة أكثر من كونها وصية خاصة لتنفيذ حكم الله. وهذا البيان فيه بعدان: البعد الأول هو الحق، والبعد الثاني هو العدل.. وحيث أن العدل كقيمة هي سيدة القيم في المنهج الإسلامي، فإن تقديم الأحقية عليها إنما يجعل لها شأناً عظيماً..

فإذا ما أردنا إحياء روح علي ومبادئ علي عليه السلام فإنه من غير الجائز لنا التصرف في حقوق اختص بها الله الآخرين. فلا يجوز لغير صاحب الدم مثلاً أن يتنازل عن حقه في القصاص وإن رأى هذا الآخر في ذلك مكسباً سياسياً أو غير ذلك. ولا يجوز لشخص أو جهة ما أن تتنازل عن حق سجين سُجن ظلماً وعدواناً، أو حق مفصول حورب في رزقه ورزق عياله، أو حق امرئ اعتدي على عرضه، أو غير ذلك من الحقوق الخاصة.. قال تعالى: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل انه كان منصورا).. فالحق للولي ولا غيره، والنصر من الله وعد جاء به الذكر الحكيم.. فمن اعتدى على ذلك الحق إنما اقترف إثماً عظيما حيث جعل رأيه مقابل إرادة المولى جل شأنه وحكمه..

اللهم أحينا حياة محمد وآل محمد، وأمتنا ممات محمد وآل محمد، وثبتا على ولاية محمد وآله محمد.. اللهم ارحم شهدائنا الأبرار، وفك قيد أسرانا المجاهدين الصابرين، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار وشر الأشرار، بحق محمد وآله الأطهار.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق