الجمعة، 10 أغسطس 2012

علي مع الحق، فلنكن معه.. ح3: فيتولى الأمر شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم

صوت الثورة

بسم الله وبالله والحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله، محمد بن عبدالله، وعلى أهل بيته الطاهرين الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا..

تحدثنا في الحلقتين الأولى والثانية من مقالات (علي مع الحق، فلنكن معه)، واللتان كانتا بعنوان (فزت ورب الكعبة) و (ضربة بضربة)، حول معيار الحق وماهية الفوز والنصر الإلهي وكان ذلك في الحلقة الأولى، فيما تناولنا في الحلقة الثانية مبدأ العدل الإلهي وتحديد ماهية صاحب الحق في الدم وغيره. وفي هذه الحلقة، وهي الحلقة الثالثة والأخيرة من مقالات (علي مع الحق، فلنكن معه) نستعرض بُعداً آخر من وصية أمير المؤمنين لابنه الحسن الزكي عليهما ونبينا الكريم أفضل الصلاة والسلام، لا يقل أهمية عما سبق. وهو بُعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والآثار المترتبة على الإتيان به أو تركه. وللتذكير نقول، إن إحياء ذكرى علي عليه السلام إنما تكون من خلال إحياء عليٍ فينا لكي تنطلق أرواحنا في فلكه، لا أن يكون الاكتفاء بإحياء وقتي بمجلس تعزية أو بخطبة أو غير ذلك من صور الإحياء الشكلي.



جاء في وصيته عليه السلام: "الصلاة الصلاة، لا تخافن في الله لومة لائم، يكفيكم من أرادكم وبغى عليكم، وقولوا للناس حسناً كما أمركم الله، ولاتتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيتول الأمر شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم، عليكم بالتواصل والتبادل وإياكم والتدابر والتقاطع والتفرق، وتعاونوا على البر والتقوى، واتقوا الله، إن الله شديد العقاب." (مقتل أمير المؤمنين 23:40، المناقب للخوارزمي 403:388، الفصول المهمة 134، كشف الغمة 59:2)..

فالصلاة عماد الدين، إن قُبلت قُبل ما دونها وإن رُدت رد ما دونها كما في الموروث الروائي الوارد عن أهل بيت العصمة عليهم السلام. بيد أن علياً عليه السلام يُلفت في وصيته لجوهر الصلاة لا لشكلها المتمثل في الرياضة المنظمة من ركوع وسجود وقيام. وجوهر الصلاة هو نهيها عن الفحشاء والمنكر، فمن لم تنهه صلاته عن باطل ولم تأمره بمعروف كانت صلاة فاقدة المضمون..

نلحظ في وصيته عليه السلام بعد استخدامه التوكيد اللفظي للتأكيد على أهمية هذا الركن التعبدي (الصلاة الصلاة)، أنه قد أتبعها بقوله (لا تخافن في الله لومة لائم).. ومعلومٌ أنه في مجتمع إسلامي -ولو ظاهراً- ليس في الصلاة بصفتها رياضة أية ملامة، ما يأخذ معنى قوله عليه السلام نحو جوهر الصلاة والذي بيَّن عليه السلام بعض جوانبه في (قولوا للناس حسناً من أمركم)، و (لا تتركو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، و (عليكم بالتواصل والتبادل وإياكم والتدابر والتقاطع والتفرق)، و (تعاونوا على البر والتقوى)، و (اتقوا الله) متبعاً ذلك كله بقوله عليه السلام (إن الله شديد العقاب).. فما العلة في التحذير من العقاب الشديد في حين أن الحديث يدور حول الصلاة التي هي رحمة وسكن للمؤمن؟

العلة بطبيعة السياق هي أن الصلاة بصفتها صلةً بين العبد وخالقه إن تمت على الوجه الأكمل المتضمن لما أورده عليه السلام من أمور، فإنها تبعث على السكينة والطمأنينة وتوجب النصر الإلهي، وهذا ما أشار إليه صلوات الله وسلامه عليه في قوله (يكفيكم من أرادكم وبغى عليكم)، أما إذا كانت رياضة شكلية خالية المضمون فإنها تكون موجبة للعقاب الشديد باعتبار الترك المتعمد، إذ يؤديها المرأ رياضة ويعزف عنها سلوكاً تعبدياً..

فالعبرة إذن ليست بأثر سجود في الجبين، وليست بطول ركوع أو سجود، وليست ببكاء أو سكون يتخلل الصلاة –وإن كان لكل ذلك أثر- وإنما بكونها آمراً فعلياً بما أمر الله وناهياً حقيقياً عما نهى الله عنه.

ولكي نفهم هذه المعاني، لابد وأن نتوقف بعض الشيء عند هذه المظاهر التي حددها أمير المؤمنين عليه السلام كمضامين عاكسة لجوهر الصلاة:

أولاً: لا تخافن في الله لومة لائم:
وفي ذلك تأكيد على ضرورة التزام الحق وعدم الجنوح للمهادنة والمجاملة في حق الله جل شأنه، ذلك أنه ليس للإنسان أن يتصرف في حقوق الله وفق ما يرى أو يظن ويعتقد إذ (إن الظن لا يغني من الحق شيئاً)، فلله الأمر وعلى العبد الامتثال والطاعة. وحيث أن مثل هذا الأمر قد يصاحبه محاولة النيل من المؤمن والإضرار به، فقد عمد عليه السلام للتأكيد على وعد الله جلت قدرته بحفظ المؤمن وتكفله بنصره (يكفيكم من أرادكم وبغى عليكم)، وهو معنى يتوافق مع المعنى الذي أشار له الذكر الحكيم في عدة مواضع، منها على سبيل المثال قوله تعالى في الآيتين الكريمتين 94-95 من سورة الحجر (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين، إنا كفيناك المستهزئين)، وكذلك قوله عز من قائل في الآية 67 من سورة المائدة (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين).


ثانياً: قولوا للناس حسناً كما أمركم الله:
وهذا المعنى ليس المراد منه فقط الكلام اللين اللطيف وذلك لاقترانه بقوله عليه السلام (كما أمركم الله).. فقول الكلام الحسن اللطيف الذي قد يستسيغه البعض أمر جيد لا إشكال فيه غير أنه لكي يتوافق مع وصية أمير المؤمنين عليه السلام لابد وأن يكون (كما أمركم الله)، والله جل شأنه لا يأمر بالباطل.
وليس من القول الحسن مثلاً أن يتخذ الإنسان قولاً ليناً لطيفاً للإبقاء على علاقة دنيوية مع مجاهر بمعصية الله معلن للفسق والفجور متعدٍ على حرمات الله وحريمه. لذلك نرى سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين بن علي عليهما السلام لما طلب منه والي يزيد لعنة الله عليه على المدينة البيعة مهدداً بضرب عنقه إن رفض، لم يتخذ الكلام اللين وإنما عمل بوصية أمير المؤمنين عليه السلام، وهي الترجمة العملية لأوامر الله ونواهيه، فقال: "إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد فاجر فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة، ومثلي لا يبايع مثله".
وهنا لا يصح القول بأن الحسين عليه السلام قد خرج بقوله عن قول الحسنى لمجرد اشتمال القول على ما قد يكرهه البعض، ذلك أن القول الحسن مشروط بأن يكون كما أمر الله..
وهذا ما نجده مثلاً في ما نعايشه اليوم من وضع يقوم على الظلم والجور والإجحاف، لا يُقبل معه أن نصف القول بأن إبهار العالم أو الحفاظ على النفس والمال والأرواح وغض الطرف عن فجور وفسق وجور الحاكم، بأنه قول حسن، بل القول الحسن كما أمر الله يكون: بأنا أتباع أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة الذين بهم فتح الله وبهم يختم، والحاكم المتجبر المتسمي بجلال الله حمد بن عيسى آل خليفة فاجر فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة، ومثلنا لا يبايع مثله.
بذلك نُحيي علياً عليه السلام في كياننا، ونعيشه في أنفسنا، فلا نخشى في ذلك لومة لائم، وتكون أنفسنا مطمئنة بأن الله يكفينا من أرادنا وبغى علينا.

ثالثاً: لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
كما هو معلوم لدى العامة والخاصة فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر إلهي لا يقبل المجادلة ولا التأويل أو التحريف، وهو أحد الأوامر التي لم يخلُ منها دينٌ مُنزل ولم يتفرد به التشريع الإسلامي. قال تعالى في الآية 157 من سورة الأعراف (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعو النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون)، فلا فلاح في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا نهي عن المنكر في تنصيب حارق القرآن وهادم بيوت الله ومنتهك الأعراض حاكماً على رقاب الناس رغماً عنهم مهما كانت مبررات ذلك. فإن قبل الناس ولم يردوا هذا المنكر بما أوتوا من مقدرة كانوا كمن شارك في الفعل والأمر، وحق عليهم أن يحجب الله عنهم إجابة الدعاء، وهو المعنى الذي يبينه عليه السلام حيث يقول (ولا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيتول الأمر شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم).

رابعاً: عليكم بالتواصل والتبادل وإياكم والتدابر والتقاطع والتفرق:
لكي ندرك المعنى المراد من هذا المضمون لابد لنا أولاً من فهم مفرداته وعدم الاكتفاء بالفهم الظاهر للكلمات، فلكل مفردة معنى خاص، ولاجتماعها في سياق واحد معنى عام ينبغي الوقوف عليه.

فأما (التواصل) ففيه إشارة إلى عدم الاكتفاء بالجلوس في بروج عاجية والتنظير وإنما المخالطة بين العامة فإن في ذلك مؤدى الوقوف على حوائج الناس ورؤاهم وما يجول في خواطرهم. وأما (التبادل) فيشير لعدم الاكتفاء بالقول أو الاستماع، وإنما الأخذ والرد. واقتران (التواصل) مع (التبادل) في السياق يشير إلى ضرورة المناقشة التي تولد القناعة عند الطرفين. وعليه، فإنه من غير الصائب إطلاق هذا الوصف على اجتماع يسعى فيها طرف لتمرير ما يرى ويعتقد، طلباً للنصرة والتأييد من الطرف الآخر. وللتأكيد على أهمية هذا الأمر، يرد نفي الفعل المخالف بعد المعنى مباشرة ضمن السياق، فيقول عليه السلام (وإياكم والتدابر) أي عدم التواصل، لأن في التدابر تفرد كل طرف برأيه، وفي (التقاطع)، أي عمل كل طرف وفق ما يرى ضداً لما يراه الآخرون انتصاراً لرأيه وظنه، يكون (التفرق)، وذلك مصداقاً لقوله تعالى (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين).

بعد هذا العرض الموجز لمعاني المفرادات والاقترانات اللفظية في سياق العبارة، لم يتبق سوى التذكير بأن كل هذه المضامين إنما أوردها أمير المؤمنين عليه السلام ضمن مضامين الصلاة. أي أن ترك هذا الفعل أو الإتيان بما يناقضه تغليباً للهوى والرأي إنما ينال من جوهر الصلاة.

خامساً: وتعاونوا على البر والتقوى:
حيث كانت الوصية في ما سبق هذه العبارة تحث على التواصل والاجتماع وتنبذ التدابر والتقاطع والتفرق، فقد جاءت هذه التتمة لتتناول البعد التطبيقي المتمثل في العمل الجماعي (وتعاونوا)، ولكن وفق الإطار الذي حدده الله جل شأنه (على البر والتقوى)، فالتعاون المحمود هو التعاون على البر والتقوى دونا عن أي نوع آخر من أنواع العمل الجماعي. فلو اجتمع القوم، كل القوم، مثلاً على تنصيب حاكم فاجر وتعاونوا في ذلك، فإن اجتماعهم واتفاقهم غير محمود، بل إن اختلافهم هو المحمود، قال تعالى (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)، وفي ذلك إشارة بالغة إلى الجزئية (منكم) بعدم الخوض مع الخائضين لمجرد الاجتماع وعدم التفرق. ولا تستلزم الجزئية الكثرة العددية فـ(كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين). فاجتماع على غير التقوى إنما يكون فعلاً مذموماً مناقضاً لجوهر الصلاة التي أراد الله جلت حكمته.

سادساً: واتقوا الله:
وفي ذلك وصية لمن انشق عن رأي الجماعة آمراً بالمعروف وناهٍ عن المنكر، بأن تكون التقوى إطار عمله، ذلك أنه إنما انشق اعتراضاً على عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم الإتيان بالمضامين الأخرى التي تضمنتها وصيته عليه السلام. فإذا ما التزم هذا الفريق التقوى كان الفئة المحمودة فاستحق النصر الإلهي، وإذا ما ترك التقوى لشائبة دنيوية داخلت نفسه كان التنازع والفشل للجميع (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين)، حيث الصبر -كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام في غير موضع- صبران، صبرٌ على الطاعة وصبرٌ عن المعصية.

هذه المضامين إذن هي مضامين الصلاة التي فرضها الله على عباده المؤمنين، فإن لم تشتمل صلاة العبد عليها كانت رياضة بدنية فارغة من الجوهر والمضمون، وكان العبد مع الإتيان بها مخالفاً لما أمر الله جل شأنه فاستحق بما اقترف العقاب. لذلك اختتم عليه السلام هذه الفقرة من الوصية بالتذكير بأن الله شديد العقاب رغم كون الحديث عن الصلاة التي هي سكن وأمان للعبد. قال تعالى (والذين إذا ذُكِّروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صُماً وعميانا، والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما، أولئك يُجزون الغرفة بما صبروا ويُلقون فيها تحية وسلاما، خالدين فيها حسُنت مستقراً ومُقاما، قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما) سورة الفرقان – الآيات 73-77.

فإن أردنا أن نَحيا علياً عليه السلام ونُحيي ذكره، وجب علينا أن نلبس لباس التقوى والإخلاص في العمل لله.. وإن أردنا أن نَحيا علياً ونحيي ذكره، وجب علينا أن نجهر برد المنكر وأن نأمر بالمعروف كما أمر الله لا كما ارتأينا.. وإن أردنا أن نحيا علياً ونحيي ذكره كان علينا أن لا نخشى في الله لومة لائم، فلا نقر بالفجور والطغيان لأن القوم قد غلبونا على أمرنا، أو لأننا أردنا الاجتماع ونبذنا الشقاق، وكان في اجتماعنا تكريساً وتعزيزاً للباطل، وفي افتراقنا إعمالاً للحق وصبراً على ما أمر الله..

اللهم أحينا حياة محمد وآل محمد، وأمتنا ممات محمد وآل محمد، وثبتا على ولاية محمد وآله محمد.. اللهم ارحم شهدائنا الأبرار، وفك قيد أسرانا المجاهدين الصابرين، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار وشر الأشرار، بحق محمد وآله الأطهار.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق