الأحد، 10 يونيو 2012

ثقافة الانتصار

صوت الثورة

هل تساءلنا يوما، لماذا لا تنتصر ثورتنا؟ أو لماذا تأخر النصر الإلهي الموعود؟

للإجابة على هذا السؤال وبعيدا عن مسألة الحكمة الإلهية، لابد لنا من معرفة ذاتنا كمدخل لهذه الاجابة. فعلى مدى السنوات الماضية عمل النظام الخليفي وبمساعدة عدة جهات على خلق شريحة شعبية تمتاز بشيء من الهشاشة النفسية وذلك عبر القهر والعنف.. طبقة يمكن التغلغل لأعماقها بسهولة نتيجة تراكمات القهر النفسي والسياسي والاجتماعي وغيره من أشكال القهر.

تلك النفسيات الضعيفة التي نجح النظام في خلقها، يسهل التلاعب بها عبر الكلمات الرنانة والوعود الزائفة، ومن السهل جعلها تتراجع عن مواقفها التي اتخذتها في لحظات الغضب أو التمرد أو حتى النشوة، وذلك نتيجة الضغط الشديد الذي مورس عليها. لذلك نرى اليوم فئة ليست بالقليلة من الشعب متذبذبة بين توجه إسقاط النظام وفكرة إصلاحه رغم قناعتها بعدم إمكانية الإصلاح.. هذه الفئة هي تحديدا السبب الرئيس في تأخر انتصار الثورة.

كلنا يعلم أن العامل النفسي هو أهم عوامل الانتصار في أي مجال،  ليس في الثورات فحسب بل في كل المجالات.. فأصحاب الحسين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، رغم قلة عددهم وعتادهم، كانوا مؤمنين بانتصارهم واثقين من خطاهم لم يترددوا ولم يتأرجحوا بين المواجهة أو التفاوض أو الانسحاب، بل لم تكن الخيارات غير خيار المواجهة واردة على الإطلاق رغم قيام الفرص وتوافرها، ورغم الإغراءات المتعددة الأشكال والترهيب الذي لم يتوقف منذ اللحظات الأولى لدق طبول الحرب، ولذلك سطروا الملاحم في مواجهة جيش يزيد الذي كان أقل تقدير لعدده في كتب التأريخ ثلاثين ألفاً بينما لم يكن عددهم يصل المائة بين مقاتل متمرس وحديث عهد بالقتال، وبين شيوخ وشباب وأطفال.. فكان الإيمان بالانتصار هو الحالة النفسية التي كانوا يعيشونها.. نعم، فالإيمان بقدرتنا على الانتصار هو ما يُحدث الفرق ويُعجل الانتصار، الذي لا يداخلنا شك في أنه قادم لا محالة..

البعض بكل أسف يسعى جاهداً لاختراق النفسيات الضعيفة والمهزوزة بكلمة (مستحيل)، ويصوِّر الأمر على أنه غير قابل للحدوث إذا ما انتهج الشعب خيار إسقاط النظام. بينما يعمد البعض الآخر لتوهين هذه الشريحة من خلال التخويف مما بعد إسقاط النظام، وللأسف، يبدو أن هذه المنهجية قد حققت بعض النجاح فبعثت اليأس في نفوس شريحة، وخلطت المفاهيم في نفوس أخرى.

إن العامل النفسي في تحقيق الانتصار هو الوقود الضامن لاستمرارية الثورة، فإذا ما انشحنت النفس بالإيمان بالنصر كان ذلك، والعكس صحيح بالطبع. لا يمكن تحقيق النصر بالتخويف والترهيب، ولا يمكن تحقيقه بالبحث هنا وهناك عن البدائل لثورة انطلقت على أثر تراكمات وتجارب مريرة مع هذا النظام، ليس أقلها القهر والتعذيب ونكث العهود. نعم، الإيمان بالنصر هو السلاح الذي لا يمكن للبنادق مواجهته أو الانتصار عليه.. وليس هذا محض تنظيرات فالتاريخ مليء بالدروس والعبر.

وليس الاختراق والعبث في المكوِّن النفسي لتلك الشريحة الهشة فقط هو مكمن الضعف، وإنما التهويل السلبي للأمور أكثر خطورة، إذ من السهل جداً لهذه الشريحة أن تنبهر وتتغنى بإنجازات غير حقيقية أو بمواقف يشوبها الغموض.. بل إنها بفعل هذه الهشاشة تعمل بالنيابة عن تلك الأصابع التي تحركها لا شعورياً على إيجاد التبريرات لكل فعل أو موقف غير صائب والتشدق حتى الثمالة بما تسميه إنجازاً غير أنه في واقع الأمر تراجع أو هزيمة. ولمواجهة ذلك، لابد وأن تتمرن هذه الشريحة على الفصل بين الشخوص والمواقف. ولابد أن تدرك بأن انتقاد أو عدم تأييد موقف من شخص ما – مهما كانت مكانته- لا يعتبر نيلاً من الشخص أو انتقاصاً من مقامه، وإنما هو إعمال للعقل كما أمر الله جل شأنه. كما يجب أن يدرك أفراد هذه الشريحة بأنه لا عصمة لغير المعصوم، وعليه، فإن احتمال الخطأ وارد من الجميع مهما كانت الخبرة أو العلم والمعرفة. وأخيراً، لابد وأن يعي الجميع أن الثورات التي انتصرت لم تنتصر بالتنظير وإنما بالنزول إلى ميادين وسوح المواجهة.

ثقافة الثقة والتخوين، هي مورد آخر من موارد الاختراق لتلك الأنفس الهشة وتأخير الانتصار، غير أنها كتلك الأوهام والمخاوف لا تخلو من السخف. فمفهوم الخيانة هو مجرد أن يكون لك رأيك الحر المخالف لما تراه الأصابع المحركة لتلك العقول، ومفهوم الثقة هو أن تصفق لكل ما يصدر عنها حتى وإن لم تكن مقتنعاً بذلك، والتبرير أنهم "يرون ما لا نرى".. هذه الثقافة تعمل في بعدين، الأول تعزيز القاعدة الجماهيرية التي يمكن من خلالها تمرير ما يرى هؤلاء، أما الثاني فتحويل النزاع من الشعب ضد النظام إلى مناكفات ومواجهات جانبية تتيح لذاك الفريق العمل على أجندته التي يسعى جاهداً لفرضها على من لم يتمكن من التأثير عليهم وجرفهم مع أمواج رعاع القوم التي لا تكل ولا تمل من التطبيل والتصفيق لكل شاردة وواردة.

عامل آخر من عوامل تأخير الانتصار يكمن في المقارنات المستمرة بين ثورة الأحرار ضد النظام الخليفي وبقية الثورات في ما يعرف بالربيع العربي. هذه المقارنات تعمل في عدة اتجاهات سواء كان المقصود منها إعاقة عجلة الثورة أو العكس. فهي من جهة تظلم الثورة البحرانية فتنسبها للربيع العربي بينما تمتد جذور الثورة على الظلم والطغيان لأمد بعيد، هو أقدم من كل تلك الحركات الثورية بمراحل. أما من الجهة الأخرى فإن استغراق البعض في تلك المقارنات إنما يحول الطاقة والجهد لما هو غير مفيد.. فكثيراً ما نقرأ ونسمع ونشاهد استغراق البعض في مقارنة عدد الشهداء أو عدد المعتقلين أو نوعية القمع أو غير ذلك من المشاهد المرتبطة بالثورة البحرانية مع ما جرى أو يجري في بقية الثورات، بل يتمادى البعض في احتساب النسب التمثيلية وإقحام المعادلات الرياضية لتعزيز مقارناته.. وكأن الغرض من الثورة هو تقديم التضحيات لا أن يكون ذلك وسيلة لبلوغ الهدف المتمثل في القضاء على الظلم والجور الجبروت.

آفة أخرى تعيق انتصار الثورة، هي آفة التنظير، حيث يستلقي البعض على فراشه الناعم أو يجلس في المقهى وبين يديه جهاز الهاتف ويبدع في التنظير والانتقاد، فيفسر دفاع الأحرار عن الأعراض والحرمات بأنه خروج عن السلمية وإضرار بنظرية "إبهار العالم" وما إلى ذلك من التنظيرات التي لا تعدو خط السخف والاستخفاف بالحرمات التي أوجب الله الدفاع عنها. والويل كل الويل لمن يختلف مع هذا الطرح حيث التهم معلبة وجاهزة للاستخدام.

وليست ساحة الأحرار في الميادين بخالية من عوامل تأخير الانتصار.. فالانهزام من المواجهة والتراجع للخلف عند أول طلقة من طلقات زبانية حمد يشكل عامل إضعاف للطرف الثائر وعامل قوة للطرف المعتدي. ولو أن الأحرار واصلوا تقدمهم بدل التراجع لولى المرتزقة هرباً كما شهدنا وشهد الجميع فرارهم من ميدان اللؤلؤة كالجرذان رغم ما يحملون من عدة وعتاد.. نعم، أحرار الثورة يخرجون بكل عزم وإصرار، غير أن الثبات في المواجهة مع التقدم للإمام هو العنصر الذي يحتاج للتعزيز في المرحلة الحالية ليتقهقر المرتزقة، إذ ليس الغرض من المسيرات أو الاعتصامات جلب المرتزقة للقمع بل للمواجهة الحقيقية. وبكلمات بسيطة، إن الغلبة التي حققها ثوار الميادين على الخوف الذي كان قد تخلل في نفوسهم يجب أن تتواصل لتتحول إلى حالة متقدمة من الإقدام، وذلك طريق الانتصار الميداني.

لعل هذه هي العوامل الرئيسية في تأخر انتصار الثورة لكنها ليست جميعها، فمثلاً الوضع الراهن فرض حالة من السيطرة السياسية على الساحة، فوجد البعض أنفسهم سياسيين رغم أن السياسة لم تكن في يوم موضع اهتمامهم، وبقليل من التنظير وكثير من التبعية، اختلط الحابل بالنابل في أذهان هذه الفئة. وكذلك الخلط بين التعبية الدينية والآراء والتوجهات السياسية، ووضع الخطوط الحمراء والخضراء والزرقاء وغيرها، والكثير الكثير من الأمور التي قد لا تشكل أثراً لو أنها كانت منفردة، لكن اجتماعها يشكل هاجساً لابد من التوقف عنده.

الخطر كل الخطر، هو القبول بالواقع والاستسلام له، وهو أمر من شأنه أن ينهي الثورة عند النقطة التي وصلت إليها.. ومعروف أن نصف ثورة يساوي هلاك أمة.. ولكي لا يكون ذلك فإنه لابد من الاستمرار في مسار التصعيد، ولابد من التجديد في أساليب المواجهة والتأثير على منابع حياة النظام والاستمرار وبشكل أكبر في فضحه في الأوساط الدولية مع عدم إهمال الجانب الداخلي المتمثل في زعزعة أركانه الأمنية.. ولا يكون ذلك سوى بالإيمان الكامل بالنصر، وأن وعد الله بنصر المظلوم متحقق لا محالة غير أن الله قد جعل لكل شيء سببا، وكان وحده ولي النصر..