الثلاثاء، 28 فبراير 2012

عندما يمتدح الشيطان عملك..

صوت الثورة

هل يمكن أن يكون الإيمان مدخلاً للتهلكة؟ الإجابة قطعاً: نعم، وهو أخطر المداخل.. والقطعية في الإجابة إنما تنبعث من الإجازة الربانية لإبليس لممارسة الغواية بشتى الوسائل والسبل. قال تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا)، وذلك في أعقاب قسمه (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين).. لذا، فإنه عندما يمتدح الشيطان عملك وإيمانك فاعلم أنك على الطريق الخطأ..

قد لا يتمكن الشيطان من ثنيك عن الصلاة والصيام وأشكال العبادة الأخرى، لكن هذا لا يدعوه لليأس، فله في إيمانك مدخل، ألا وهو العُجب.. والعُجب –وهو أعلى درجات الغرور- هو الزهو بالنفس واستعظام كل عمل منها مقابل استصغار من دونها، لذلك كان الجزاء الذي أوجبه الله سبحانه وتعالى لهذه الصفة الذميمة هو إحباط تلك الأعمال لقيامها على (الأنا)، ولا (أنا) أمام أناة الله جلت عظمته..

لم تكن التسمية التي أطلقها الإمام الراحل (قدس سره الشريف) على الولايات المتحدة الأمريكية (إدارة لا شعباً)، عندما سماها "الشيطان الأكبر" منطلقة من عاطفة أو كونها خصماً له في حينها، فمن يقرأ سيرة هذا الرجل يعلم جيداً أنه أكبر من ذلك، سواء وافقه أو خالفه في الرأي والمذهب. هذه المقاربة بين الولايات المتحدة الأمريكية والشيطان أسسها الإمام الراحل على عدة مبانٍ، من بينها الأهداف والأدوات والوسائل.. كما أنه لم يتفرد في ذلك، وإن كان هذا اللقب هو الأشهر باعتبار الموقع السياسي للإمام الراحل إلى جانب موقعه الديني، فهذه النظرة يوافقها جمعٌ غفير من جهابذة العلم والسياسة، وفي مقدمة الماضين منهم الإمام الشيرازي (قدس سره الشريف)، فيما يتقدم السيد هادي المدرسي والسيد حسن نصر الله (أمد الله في عمريهما) الأحياء منهم. ونكتفي بهذه النماذج إذ أننا لسنا في معرض مناقشة من يوافق أو من يعارض الموقع الشيطاني للإدارة الأمريكية.

المقدمة السالفة أساسية وضرورية لفهم مجريات الصراع في الساحة البحرانية، والذي كان الانتصار فيه قاب قوسين أو أدنى، حتى ارتأى (الشيطان) تغيير منهجيته بعد أن أدرك أن ثني الثوار عن موقفهم الرامي لإسقاط النظام أمر قد تجاوز خط الإمكان. فالساحة منقسمة (وهذا لا يعني بالضرورة أنه انقسام عدائي لا انسجام فيه، حتى الآن على الأقل) بين منهجيتين: إسقاط النظام، وإصلاح النظام.. فبينما يرى الثوار، وهم الشوكة الحقيقية في حلق النظام والحلق الأمريكي من خلفه، أن لا خيار سوى إسقاط النظام وإقامة نظام بديل، يرى بعض السياسيين، ممثلين في خمس جمعيات سياسية فقط، أن الممكن بل المبتغى هو إصلاح النظام.

ما يسميه سياسيو الجمعيات الخمس "إصلاح النظام" هو في الواقع ليس أكثر من وَهم كوهم إصلاح فرعون والنمرود وغيرهم ممن سبق، وهم يدركون ذلك، لكنهم في الواقع لا يجرؤون على أكثر منه.. وفي المقابل، فإن جرأة الآخرين على ما لا يستطيع هؤلاء إنما تبعث لديهم أرقاً هو ليس أقل من الأرق الذي يعيشه النظام، حيث يهدد ذلك –في نظرهم- مكانتهم القيادية في الساحة عبر عقد من الزمن. لذلك نجدهم لا يستنكفون تحجيم الرأي الآخر واستصغاره، ولا الإصرار المغلوط على أنهم "المعارضة" بإطلاق التعميم، ولا يساورهم أي حرج في إطلاق فعاليات جماهيرية مضادة لكل فعالية ينظمها الطرف الآخر انطلاقاً من حقهم في التعبير عن رأيهم وإرادتهم، فإذا ما قويت شوكة الطرف الآخر بسبب معطيات الساحة، علت صيحات الوحدة ونبذ الشقاق. لأنه من غير المسموح أن يوجد غيرهم في الساحة..

من هذا المدخل، وجد الشيطان (الأكبر) ضالته.. فبدأ العمل على تكريس هذه القناعة لدى مريدي الإصلاح بأنهم على صواب وأنهم في تلك المنهجية إنما يضاهون التيارات السياسية المتحضرة في العالم، مغلفاً ذلك بالدعم والتأييد من القوة الكبرى (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا). فيده اليمنى تبيع سلاح الدمار والقتل والفتك للنظام الخليفي، فيما تمتد يده اليسرى لدعم "المعارضة" السياسية من خلال مساعدتها على إبعاد تلك العقبة المؤرقة، المتمثلة في مطلب "إسقاط النظام"..

كم كان بودنا أن نبارك للقيادي الوفاقي مطر مطر منحه جائزة القادة الديمقراطيين من قبل مشروع منظمة الشرق الأوسط للديمقراطية، وهي منظمة أمريكية (غير ربحية)، (غير حزبية) حسب ادعائها، تسعى –أيضا حسب ادعائها- لتعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط، ومع ذلك كانت غائبة عن المشهد البحراني طيلة الأعوام السابقة، بل وحتى بعد انطلاق الثورة في الرابع عشر من فبراير 2011. كم كان بودنا أن نقول للعالم هؤلاء هم البحرينيون في سجل إنجازاتهم، لكننا بكل أسف عندما ننظر للواقع بصورة شمولية فيما تمتد العين الأخرى للتمحيص في ثنايا الصورة، لا نجد أنفسنا متحمسين لذلك، لا لشيء في النفس ضد مطر أو حتى ضد الوفاق وقياداتها أو جمهورها، فهم منا ونحن منهم، وإنما لأن النظرة الفاحصة في الواقع، تؤكد أن الأصابع الأمريكية قد أوجدت لنفسها مكاناً بين الأوتار فبدأت بتغيير اللحن الذي كان الشارع يعزفه..

تقول المنظمة في خطابها لمطر: "هناك عدد قليل من الأفراد الذين يجسدون الأهداف والمبادئ التي تلهم عملنا لتعزيز دعم الولايات المتحدة الأميركية للديمقراطية وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمال افريقيا. ونود أن نقر بما تبذلونه من جهود رائعة وسط ظروف صعبة للغاية خلال العام الماضي 2011، والتزامكم الراسخ للإصلاح السياسي في البحرين، بما في ذلك دوركم المهم كقيادي في جمعية الوفاق. لذلك يشرفنا أن نمنحكم هذه الجائزة وعن جدارة"..

لن نستغرق كثيراً في هذا الحديث ليقيننا بأن البعض سيفسره على أنه إثارة للحزازيات، والبعض سيؤوله على أنه حسد وغيرة، وبعض ثالث سيرى أنه ترهات، فيما سيراه قليل أنه وإن كان صحيحاً إلا أن الوقت غير مناسب للتصريح به حفاظاً على وحدة الصف.. لكننا في المقابل، لن نمر على ذلك مرور الكرام استجابة لدعاوى التسطيح الفكري وأصوات التبعية العمياء التي تفضل أن توكل مهمة التفكير والتقرير لآخرين نيابة عنها إيماناً منها بعدم قدرتها على القيام بذلك، وسوءاً للظن بالله جل شأنه بأنه ميَّز أولئك بقدرة لم يهبهم إياها..

"التزامكم الراسخ للإصلاح السياسي في البحرين، بما في ذلك دوركم المهم كقيادي في جمعية الوفاق"، هذه الكلمات تستلزم وقفة –لن نطيل فيها كما وعدنا، ولن نتجاوزها أيضا كما وعدنا.. فموقع مطر في الوفاق ليس موقع المنظِّر ولا المخطط الاستراتيجي ولا صاحب الكاريزما السياسية المؤثرة (مع كل الاحترام لشخصه الكريم)، هو فقط أحد قياديي الوفاق، كما أن موقع الوفاق ليس موقع الدولة وإنما فقط منظمة أهلية سياسية، أي أنها وفق الأعراف السياسية حزب سياسي.. فيما تشير العبارة إلى أن من بين أسباب الاختيار هو "الدور القيادي في جمعية الوفاق"!! فهل هي مفاضلة بين قيادات الجمعيات والأحزاب السياسية في العالم مثلاً، وجاء دور مطر (أو غير مطر) في المرتبة الأولى من حيث هذا الإسهام؟ وعلى فرض هذه المفاضلة، ألم يكن الأولى أن يكون شخص أمين عام جمعية الوفاق هو الأولى بهذا الوصف؟! ألم يلاقِ جواد فيروز مثلاً ما لاقى مطر، وهو قيادي حاله حال مطر؟ أليس إبراهم شريف الذي لايزال يقبع خلف القضبان متمسكاً بخيار الإصلاح رغم ما لاقى ويلاقي، وهو القيادي الأبرز في جمعية وعد؟ الشق الأول من العبارة يجيب على تلك الأسئلة: "التزامكم الراسخ للإصلاح السياسي في البحرين".. إذن، هي مسألة ربط بين "الإصلاح" و "الوفاق" في مشهد "عالمي"، تحل فيه الوفاق محل الراعي الرسمي للرأي المعارض مقابل النظام باعتماد سيكلوجيا التعزيز الذهني، وعليه، فإن الحوار المزمع بالرعاية الأمريكية، يكون حواراً بين النظام والممثل الشرعي (بإطلاق التعميم) عن المعارضة، أي أن مقررات ذلك الحوار إنما هي ملزمة لكلا الطرفين..

جائزة مطر ليست هي البادرة الأولى في هذا الاتجاه، كما أنها لن تكون الأخيرة.. فقد سبق وأن أورد الرئيس الأمريكي في خطابه ذكر الوفاق بدل القول (المعارضة البحرانية) حيث كان يؤكد على أهمية دخول النظام في حوار جاد مع المعارضة.. وعلى الرغم من ادعاء الإيمان بالتعددية السياسية، إلا أن أوباما لم يشر على الأقل لجمعيات التحالف الخماسي القابعة تحت عباءة الوفاق لا قناعة بخطها بل استثماراً لقاعدتها الجماهيرية، وإنما ألغى الجميع –بمن فيهم حلفاء الوفاق- وأبقى على الوفاق عُنوةً لا ارتجالاً.. كما بدر ذات الأمر في عدة تصريحات لشخصيات رسمية في الولايات المتحدة الأمريكية من بينها كلينتون وغيرها.. وإنه لمن المؤكد، بل اليقين، أن مثل هذه التصريحات والتأكيدات على موقع الوفاق كممثل كلي عن المعارضة، سيزداد وسيتعزز في القادم من الأيام..

وفي بادرة تعزيز قناعة الوفاق بصحة منهجها ليصل لدرجة العُجب فيحقق المبتغى، بدأ النظام الأمريكي أولى خطواته في عولمة الخط الوفاقي، وذلك من خلال الجوائز العالمية من جهة، وفتح صمام الضغط الإعلامي العالمي بمقدار يسير يتيح للخط الوفاقي–فقط الخط الوفاقي- الظهور أمام العالم لترويج فكرة أن ما يجري في البحرين هو "أزمة سياسية" وأن "الحل السياسي" يكمن في الحوار من أجل "الإصلاح"، وأنه لا خيار في الشارع سوى "إصلاح النظام" وما دون ذلك هي أصوات متطرفة غير واقعية لا تحسن الحسابات السياسية، وأن هذا الأمر متوافق عليه بين النظام و"المعارضة"، غير أن الخلاف يكمن في الشكل والأبعاد، لذلك فإن "الحوار" هو ما يكفل تقريب وجهات النظر!!

أما على الصعيد الداخلي، فالمتوقع من الوفاق هو الاستمرار في تعزيز فكرة استحالة إسقاط النظام اعتمادا على موقعها السياسي والديني والجماهيري.. ومقابل هذه الاستحالة فإن إمكانية الخروج بمكسب من هذه الأزمة يتمثل في تغيير الحكومة هو أمرٌ وارد جداً، وهو "الممكن" واقعاً..

مؤشرات ما أوردنا أعلاه بدأت تتضح بشكل كبير، لا يغفله إلا نوعين من الناس، النوع الأول هو المؤمن بقداسة الرموز الوفاقية وصحة كل ما يبدر عنها إن هي يممت نحو اليمين أو الشمال، إن شاركت أو قاطعت، إن قالت أو سكتت، إن وافقت أو رفضت، والثاني هو الذي داخَلَه التعب والإجهاد من الوضع القائم، فبات يبحث عن أقرب مخرج من الوضع الراهن، وهو ما كان النظام يراهن عليه في جهده الحثيث لكسب الوقت..

فقبل أسابيع قليلة مثلاً، احتلت ساحة المقشع، المسماة جزافاً "ساحة الحرية"، والتي أُريد لها أن تكون ساحة بديلة عن ميدان الشهداء من خلال محاكاة شكلية شبه كلية للميدان، ولكن الله سلّم، المساحة الأكبر من التغطية الإعلامية حتى لدى الإعلام المتعاطف مع الثورة. فبينما كانت القرى تعاني وطأة القمع المفرط على مدى أسبوع كامل، كانت وسائل الإعلام تعرض الخطب السياسية ومشاهد من مجريات تلك الساحة والتي كانت أقرب إلى الكرنفال الاحتفالي منها إلى فعالية جادة في المعارضة، ولم يكن النظام يتعرض لها لا من قريب ولا من بعيد رغم رفع شعار "إسقاط النظام" فيها ليل نهار، وهو شعار أدى بالبعض للقتل تحت آلة القمع والتعذيب، والبعض الآخر للحبس المؤبد أو طويل الأمد، حتى وصل الأمر للحكم بحبس سيدة فاضلة خمس سنوات لاستماعها للأناشيد الثورية. في ذات الفترة كان بسيوني متواجداً في البحرين لتخط أصابعه الآثمة تقريراً لم يكن ضمن بنود اتفاق لجنة تقصي الحقائق، يخلص فيه إلى وجود بوادر للإصلاح الجاد تتمثل بعض مظاهره في السماح بحرية التعبير!!

إذاعة وتلفزيون البي بي سي، التي تتغافل حتى عن نقل أخبار سقوط ضحايا من الناس العزل، تخصص مساحات واسعة بين الحين والآخر لاستضافة شخصيات رسمية وأخرى معارضة في حوارات مباشرة.. الشخصيات الرسمية في تلك الحوارات تتنوع بعض الشيء، وإن كانت تتركز غالباً في شخص سميرة رجب باعتبارها شخصية (شيعية) في النظام الخليفي، بينما تكاد تكون شخصية المعارضة محصورة في شخص خليل المرزوق (مع شديد الاحترام لشخصه)، حتى بات البعض يظنه مقدم البرنامج.. وإن لم يكن المرزوق فشخصية أخرى من الوفاق، وهذا نادراً ما يكون.. ولم يحدث أن استضافت هذه القناة العالمية الصانعة للرأي بما تتمتع به من عراقة و(مصداقية) شخصية تطالب بإسقاط النظام في هذه البرامج.. وعلى نفس المنوال تسير قناة الجزيرة العربية..

فخلاصة القول إذن، أنه ليس في الساحة البحرانية من رأي سوى رأي الوفاق.. مكسبٌ طالما كان النظام الخليفي يسعى لتحقيقه حتى أصيب باليأس من قدرته على ذلك، فجاءت أصابع (الشيطان) الأكبر لتحقق ما عجز عنه الشيطان الأصغر.. هذا المكسب ليس حباً في الوفاق بالطبع، فهي لم ولن تكون موضع ترحيب ولا قبول من قبل الإدارة الأمريكية أو النظام الخليفي، وإنما حلحلة للمشكلة المؤرقة التي يعاني منها النظام الخليفي في إجهاض الثورة البحرانية، والتي تتمثل في "لا مركزية القيادة"..

لقد كان إدراك القيادات الشعبية، في الداخل والخارج، لهذا الأمر مبكراً جداً.. وهو إدراك متقدم بكل المقاييس على قدرة الكوادر السياسية في جمعية الوفاق، وكلها (بإطلاق التعميم) كوادر سياسية حديثة لا يتجاوز عمر معظمها –إن لم يكن جميعها- تسعينات القرن الماضي.. لذلك كان التأكيد المستمر على منصة ميدان الشهداء وفي غيرها من المواقع منذ انطلاق الشرارة الأولى للثورة على الحفاظ على مبدأ اللامركزية في القيادة، باعتباره صمام الأمان لاستمرار الثورة حتى تحقيق أهدافها، وفي مقدمتها "إسقاط النظام".. وكان هذا التأكيد غالباً ما يأتي من تلك القيادات في خضم التحذير من الوقوع في فخ "الحوار" مع النظام..

لطالما كنا نقول، والوفاق في مقدمتنا في هذا القول: إن على النظام أن يدرك أن القمع لن يثني الشعب الثائر بل سيزيد في تمسكه بثورته.. وهذا ما أثبته الواقع بالفعل. وقد حان الوقت لكي نقول: إن على جمعيات التحالف الخماسي المعارضة، والوفاق في مقدمتها، أن تدرك أن القمع الفكري لن يثني الشعب الثائر بل سيزيد في تمسكه بثورته.. فلا تغرنكم وعود الشيطان فما يعدكم الشيطان إلا غرورا، ولا تقعوا في فخ العُجب الذي ينصب حبائله لكم الشيطان فتحبط أعمالكم وتضحياتكم، فإن في العُجب التهلكة وإحباط العمل.. فلا تكونوا (كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)..

كما نذكر إخوتنا وأحبتنا في الوفاق وبقية الجمعيات السياسية أن ما يبدو وداً أمريكياً ليس وداً في حقيقته، وإنما هي حقيقةُ تَحمُّل بعض الألم للتخلص من ألم أكبر.. فأَن تمد إصبعك أو أي أداة لانتزاع الشوكة من حلقك هو أمر مؤلم بالفعل، لكنه في كل الأحوال أقل إيلاماً من الإبقاء على الشوكة أو التكيف معها.. لكن ما أن تزول الشوكة، حتى يبدأ التفكير والعمل على التخلص من ألم إزالتها.. فالخيار الأمريكي في الوقت الراهن هو إزالة الشوكة المؤلمة، وسيكون بعد نجاحه لا قدر الله، إزالة ألم التخلص من تلك الشوكة..

الجمعة، 24 فبراير 2012

حديث المطارحة الثاني: الحوار.. انتحار أم حتمية؟

صوت الثورة

بعد تعليقنا السابق على الرسالة (37) للكاتبة الكريمة لميس ضيف، والتي عنونتها بـ"الشقاق حول الوفاق"، واستنتجنا فيه بتحليل المضامين بعيداً عن الصورة الظاهرية للمقال أنها دعوى "للوفاق حول الشقاق"، كنا نأمل أن يستوقف الكاتبة ولو بعض ما أوردنا، لاسيما وأنها اعتمدت الكلام المرسل فيما اعتمدنا الأحداث والوقائع والتحليل.. وتبعاً لذاك الأمل، كنا قد عقدنا العزم على عدم الاستمرار في مطارحاتنا لما أسمته الكاتبة (بالمصارحة).. والسبب في ذلك يرجع إلى أمرين، الأول: أننا لا نهدف في مطارحاتنا لـ(مصارحات) الكاتبة للمناكفة أو مصادرة الحق في التعبير عن الرؤية الشخصية وإنما كما أوضحنا في مطارحتنا الأولى اشتمال تلك المقالة على العديد من المغالطات من العنوان حتى ما قبل نقطة نهاية السطر الأخير. فوجدنا أننا ملزمين بالتعليق حفظاً للتأريخ والمستقبل.

أما الأمر الثاني فيتمثل في الخشية من تفسير موقفنا على أنه عداء شخصي للكاتبة أو التيار الذي تروج له، أو التهمة التي ما فتئت تلصقها بالثوار من مصادرتهم لحريات الآخرين، وهو أمر نشدد على نفيه، إذ لا نحمل للكاتبة الكريمة ولا للتيارات المعادية لمطلب شريحة واسعة من الشارع الذي تتشدق به وتصر على أنها الممثل له (بالتعميم المطلق) والمتمثل في إسقاط النظام، والمصرة (أي التيارات) على إنفاذ رأيها على إرادة تلك الشريحة الواسعة ضاربة بتلك الإرادة عرض الحائط، انطلاقاً من القاعدة المغلوطة التي كنا قد أشرنا إليها في المطارحة السابقة وغيرها من المقالات والمتمثلة في أعلمية تلك التيارات وزعاماتها، وقدرتها الفائقة على إدارة ما تسميه بالأزمة ويسميه الشارع بالثورة، وأنها ترى ما لا يراه الآخرون.. وهي كما قلنا ونكرر وسنظل: قاعدة ليس لها أي اعتبار لعدم مبارحتها الوهم والإيحاء، لذلك فإنها قاعدة مرفوضة رفضاً قاطعاً غير قابل للنقاش لتمحورها حول تعطيل العقل وتعيين نائب للتفكير عن الآخرين وتقرير مصيرهم.

نقول: رغم هذا الرأي السابق بعدم مطارحة (مصارحات) الكاتبة، إلا أننا لم نجد بداً، كما كانت الحال في المطارحة الأولى، من المضي في ما كنا قد بدأناه بعد ما وجدنا إصراراً واضحاً على خلط الأوراق من جهة وتقرير الرؤى الشخصية التي تتبناها الكاتبة على أنها نتائج مسلم بها دون استنادها على التحليل أو على أقل تقدير على العرض النزيه للوقائع. أما في ما يتعلق بالخشية من تأويل موقفنا على أنه موقف عداء لأي جهة كانت، فإننا لما وازنا ضرر الصمت وضرر السكوت، رجحت كفة الأخير.. وعليه، فإننا نمضي بعون الله تعالى وتوفيقه في ما كنا قد بدأناه، والله من وراء القصد.

في الرسالة (38) المعنونة "حديث المصارحة الثاني: الحوار.. حتمية أم خيانة؟" وهي المقالة المكملة لمقالة المغالطات الأولى (الرسالة 37).. وهي مكملة بالفعل لا بمجرد التسلسل والترتيب، إذ ركزت الكاتبة جهودها في المقالة الأولى -كما أسلفنا في مطارحتنا الأولى- على تسفيه الثوار وإثبات موقع السياسيين، فيما خلص مقالها لما لم تكن ترغب به من نتيجة حيث ثبت بالتحليل أن تبني إثارات الكاتبة إنما يُفضي إلى تسليم الدفة للثوار لا للساسة. أما في هذه المقالة، فتقدم العبث خطوة للأمام لتشويه صورة الثوار بعد أن أنهت الكاتبة مرحلة التسفيه.

محاولة التشويه هذه بدأت مع الفقرة الأولى للمقال (الفقرة الخامسة في سلسة المغالطات)، حيث استشهدت الكاتبة بحادثة يعلم الله مدى صحتها. وليس من الأهمية بالنسبة لنا إن كانت قد وقعت بالفعل أم أنها من نسج الخيال، بل إن ما يهمنا هو ما نبينه في الأسطر القليلة التالية. تقول الكاتبة في مطلع مقالها: "قبل أن أعتلي منصة الدوار، الدوار الذي هدمته السلطة وحولته "لبارك: للمدرعات والجنود، جاءني أحد المنظمين على استحياء: (أستاذة عاااد لا تجيبين طاري الحوار – قال متطلفاً – أنت غالية عندنا ونخاف "يفلعونك" أمس "فالعين" واحد لهالسبب"، ثم تُعقِّب بالقول: "لم أطعه بالطبع ونصحت الجماهير عشيتها باقتناص فرصة الحوار دام أن السلطة مرتبكة ويد الجناح المتعجرف في العائلة الحاكمة مغلولة –مؤقتاً- ولم يوافقني أو "يفلعني" أحد ولا أدري أقتناع بطرحي أم خوف على مشاعري!"

كما ذكرنا، ليس مهماً بالنسبة لنا صدق أو عدم صدق هذه الرواية رغم كونها وفق تعبير أهل العلوم الدينية (رواية آحاد)، كتلك الرواية التي رواها الخليفة الأول عن النبي (ص) بعد وفاته: "إنني سمعت رسول الله يقول بأننا معاشر الأنبياء لا نورث"، والتي ألقت بظلالها ولا تزال على الأمة الإسلامية فشقتها في فريقين، واتخذها جمع من المطبلين عبر الزمن ذريعة لتعزيز الشقاق في جسد الأمة الإسلامية، ولا يزال ديدنُ القوم فِعلُ السلف حتى اليوم، وسيظل حتى الغد لا محالة. المهم، بل الغاية في الأهمية، عندنا هنا هو أنه مع فرض صحتها فإن تلك الحادثة التي أشارت إليها الكاتبة إنما جاءت من فرد لا من جموع الثوار، وقد أنكرناها واستنكرناها كما فعل جميع الثوار حينها، بينما لجأت الكاتب لإيرادها لإيهام القارئ من خلال أسلوب التعميم الذي تعتمده - وتعتمده التيارات السياسية في كل خطاباتها وهي التيارات التي تراها الكاتبة الأصلح والأمثل والأفهم والأقدر على قيادة الدفة- بعنجهية وهمجية وديكتاتورية الثوار الذين إن خالفهم أحدٌ في الرأي برز الحيوان في داخلهم (وأجل الله الثوار عن هذا الوصف)..

أرادت الكاتبة من خلال افتتاح مقالتها بهذه العبارة السمجة أن تقول: هذه هي أخلاق الثوار، لذا فإنها لم تورد فيما بعد أن خمساً من الشخصيات المعروفة، من بينهم سماحة الشيخ محمد حبيب المقداد (فرَّج الله عنه) والشيخ حسين الأكرف وغيرهم، اعتلت المنصة فوراً بعد هذا التصرف الأرعن من فرد واحد وأعلنت استنكارها وأكدت على حق الجميع في التعبير عن آرائهم بكل صراحة وحرية، ثم عاد المرزوق –وهو الشخص المعني في هذه الحادثة- لمتابعة حديثه الذي اختُتم بالتصفيق الحار والهاتفات الساخنة من الجماهير، بل ونذكر الجميع، والأخ الفاضل خليل المرزوق حيٌ يرزق (أمد الله في عمره) ويمكن التأكد منه شخصياً، بأنه غادر المنصة حتى نهاية الجموع محمولاً من قبل الثوار الذين أحاطوا به ليؤكدوا نبذهم لهذا التصرف الفردي.. ونقول: هذه هي أخلاق الثوار يا كاتبتنا الفاضلة.

تذكيران أخيران للأخت الكريمة حول هذه المقدمة السمجة، الأول هو أن لقاءها الذي أشارت إليه في الدوار، لم يكن في اليوم التالي لهذه الحادثة كما بدا من العبارة الافتتاحية في مقالها، ونتحفظ عن ذكر التواريخ لسبب بسيط وهو أنه –كما اشرنا سابقاً- ليس هدفنا تكذيب أو تصديق الرواية الأحادية التي أوردتها الكاتبة.. فإذا ما أصرت الكاتبة فلا ضير من ذكر ذلك لاحقاً، وإن كنا لا نأمل ذلك حقاً.. أما التذكير الثاني فهو أن جماهير الثورة، ونقول جماهير الثورة تحديداً الذين علا هتافهم بـ"الشعب يريد إسقاط النظام" كواحد من جملة الهتافات التي كانوا يرددونها- كان في قمة التفاعل طيلة فترة حديثها، وكانت تلك الهتافات قد بدأت بـ"شكراً لكم شكراً لكم" واختتمت بذات العبارة، ولم يكن أمر (الفلعة) وارداً أو متوقعاً في مشهد كهذا، فعدم (فلعها) لم يكن مراعاة لمشاعرها، وإنما لأنه بكل بساطة خُلُق الثوار، الذي نقول لمن يعيبه: العيبُ كل العيبِ فيك وعليك..

نكتفي بهذا القدر، ونعتذر للقارئ الكريم عن الإطالة في هذه النقطة، حيث أنها من وجهة نظرنا، هي النقطة الأهم في كل المقال، لما تشكله من أمر في غاية الحساسية، وننتقل للحديث في بقية المغالطات، وذلك على النحو التالي:

النقطة الأولى: هل مفردة الحوار مشبوهة والمحاور خائن؟
تقول الكاتبة: "لقد تحول (الحوار) لكلمة مشبوهة بسبب حزمة من الشعارات: (الحوار خيانة لدم الشهداء)، (لا حوار إلا في الدوار)، (لا حوار مع القتلة)، ومثيلاتها من الشعارات التي تؤطر الرفض بلغة مشبعة بالتخوين كفيلة بتخويف وتهديد من يجرؤ على الدفاع عن الحوار".

وما نود بيانه هنا للأخت الكاتبة وللقارئ الكريم هو أن الحوار مع النظام تحول بالفعل لكلمة مشبوهة –على الأقل من وجهة نظرنا كثوار- لكن هذا التحول لم يكن بسبب شعارات كما رأت الكاتبة، إذ لا ينطلق الثوار في موقفهم من منطلقات عاطفية.. وإنما جرى هذا التحول في مفردة "الحوار" مع النظام فقط وليس أي حوار، تأسيساً على وقائع ملموسة ومحسوسة كانت هي الباعث على قيام الثورة، منها على سبيل المثال لا الحصر استمرار نكث العهود والمواثيق في أعقاب كل حوار، وتكريس العمل خلف الكواليس لتمزيق المجتمع على أسس طائفية بغيضة والتي تم بحمد الله كشفها في تقرير البندر وغيره من التقارير والمعلومات التي تم فضحها بفضل الله لتكون بينة لصالح الشعب لا معلومةً تضاف إليه، إذ أنه يعيش ذلك الواقع ويعلمه جيداً، وإنما كان التقرير بَيِّنةً يستند عليها أمام العالم. أما مفردة الحوار بشكلها العام – أي مع غير النظام – فلا نقول أنها موضع قبولٍ أو ترحيب فقط، بل إنها موضوع دعوة من الثوار للجميعات السياسية للدخول في حوار مع بقية الفصائل المعارضة، وها هي أدبيات الثوار تملأ صفحات شبكة الإنترنت، وهي دعوة تُحجم عنها الجمعيات السياسية إدراكاً منها أنها لا تتمكن من مقارعة الحجة الشعبية وبالتالي ستكون أمام خيارين أحلاهما مر، الأول أن تلتحق بالرأي الآخر، والثاني: أن تتمسك برأيها فتخسر شريحة واسعة من الشارع. وهذا يدلل على أن رفض الحوار لا ينطلق من منطلقات عاطفية بتاتاً لكونه رفضاً موجهاً لا رفضاً شمولياً..

تقول الأخت الكريمة: "ولأني بحرانية حربية سأعقد معكم صفقة خاصة: سأقبل بتخوينكم واستهزائكم ورفضكم – مسموحين مقدما – شريطة أن تتمعنوا فيما سأسرد وأقول".. وسنتجاوز عن محاولة هذه العبارة لتكريس الحقيقة المغلوطة في أن خُلُقَ الثوار هو التخوين والاستهزاء والرفض لكل من يخالفهم، لنقول في المقابل: "نحن بحرانيون مسالمون لكننا أصحاب عزةٍ وأنَفَة، ولسنا حربيين بطبعنا، ولذلك قبلنا بصفقتك التي عقدتها مع مراعاة أننا لا نخوَّن، ولا نستهزئ، (فلك أن تعتبري هذا ربحاً حلالاً عاد عليك من الصفقة حيث كسبته دون أي نفقة)، أما الرفض فمن حقنا أن نرفض ما لا يقبله العقل غير منتظرين منك أو من غيرك أن يسمح لنا في ذلك.. وعليه، فإننا سنعمل فيما يلي بمقتضى دورنا في هذه الصفقة فنتمعن فيما سردتِ من قول"..

النقطة الثانية: أمثلة من التاريخ:
كان أول الأمثلة التي ساقتها الكاتبة –ونحن نتمعن فيها بناء على الصفقة التي عرضتها وقبلناها- شيخ المجاهدين عمر المختار (رحمة الله عليه) الذي "حارب الإيطاليين وخاض معهم 263 معركة استجاب ودخل مفاوضات السلام في سيدي ارحومة مع بادوليو- الرجل الثاني بعد موسليني- ولما وجد شروط السلام مجحفة بحق شعبه رفضها.. فهل دخل المختار المفاوضات جهلاً أو ضعفاً أم لأنه يجهل أفعال المستعمر بشعبه؟"..

مثال غير موفق على الإطلاق، حيث أن عمر المختار دخل المفاوضات حاملاً إرادة شعبه لا إرادته ومرئياته هو، فلما وجد شروط السلام (وهي إرادة شعبه) مجحفة رفضها.. بينما يدخل الراغبون في الحوار في وضع الثورة البحرانية حاملين مرئياتهم هم وليس إرادة الشارع، ولكي نكون دقيقين أكثر نقول إرادة شريحة واسعة من الشارع، إذ أنه ليس من حقنا أن ننكر أن هناك شريحة تؤيد طرح ومرئيات الجمعيات، وهو حق من حقوقهم لا تجوز مصادرته لمجرد مصادرة الجمعيات حق الطرف الآخر. والفرق بين الحالين كبيرٌ لكنه لا يحتمل المزيد من التفصيل، لكي لا نطيل على القارئ الكريم. وسنكتفي بالقول درءاً للاعتراض ليس أكثر، أن الجمعيات السياسية الراغبة في الدخول في الحوار هي من يقول بأن الحوار يتأسس على ما ورد في وثيقة المنامة، وهم القائل –لا نحن- أن وثيقة المنامة هي مرئيات الجمعيات السياسية للخروج من "الأزمة السياسية" حسب وصفهم. لذا، فإن الحوار لا يمثلنا ولسنا ملزمين بالقبول به، أو بنتائجه إذا ما تم لا سمح الله.

وذات الأمر يجري على المثالين اللاحقين وهما نيلسون مانديلا الذي حاور سجانيه بمطالب شعبه لا برأيه، وحروب القدماء. ومجدداً سنتغاضى عن المحاولات المتكررة لوصف الرافض للحوار بأبشع الصفات كما في قول الكاتبة: "ولكنها التزام أدبي وأخلاقي عند المتحاربين يدل على النبل ويشير تجاوزه على العدائية والهمجية"، إذ لا زلنا نصر على أن الثوار ليسوا عدائيين ولا همجيين وإنما يتمسكون بمبادئ وأهداف واضحة على عكس السياسيين، كما أسلفنا في مطارحتنا السابقة، وأسلفت الكاتبة في (مصارحتها) الأولى، حيث قالت: " ولا أشك أن نقاء الثائر ومبادئه أسمى من مبادئ السياسيين".

النقطة الثالثة: التحول في الصراعات وآلة الحرب:
ترى الكاتبة أننا نعيش اليوم عصر "الصراعات الناعمة" وهي صراعات مغايرة لصراعات "عصر السيف والمنجنيق والفيلة".. وتستنتج بعد بعض البيان أن سبب قلة الضحايا في الصراعات الناعمة –حسب وصف الكاتبة- هو أن "الصراعات تبدأ بهزيمة سياسية وإعلامية تعقبها هزيمة عسكرية سائغة".. والسؤال ها هنا بعد أن تمعنا جيداً في هذه الصورة السريالية التي رسمتها الكاتبة بناء على الصفقة القائمة، فوجدنا أن "عدد الضحايا قد تقلص من الملايين إلى الآلاف وربما مئات رغم أن آليات الدمار صارت أقوى وأشرس" هو أن أن آليات الدمار لا تُستخدم رغم امتلاكها، وإنما يُستخدم سلاح السياسة والإعلام، لذلك كانت الهزيمة باستخدام ذات السلاح.. أما في البحرين، فالحرب حرب القرون الوسطى، حيث لم يألُ النظام جهداً ولم يدخر فرصةً في استخدام آلة الدمار التي يمتلكها إلا واستثمرها، بل واستقدم آلة الدمار التي لا يمتلكها من جيرانه، ليواجه بها شعباً أعزل.. ومع ذلك، استمر الشعب في استخدامه سلاح السياسة من خلال اعتماده التظاهرات السلمية –والتي تشكل ضغطاً سياسياً على النظام- والآلة الإعلامية المتواضعة ليقابل بها فوهة البنادق والدبابات، ولم يزل كذلك حتى اللحظة رغم الموقف السياسي والإعلامي المخزي على المستويين الإقليمي والدولي. ومع ذلك، كانت النتيجة أنْ كان من نصيب النظام وآلته العسكرية الفتاكة كل دعم سياسي ومادي ومعنوي وإعلامي من جيرانه وحلفائه، وبمعنى أدق من العالم كله عدا ثلاث أو أربع دول. وعليه، فإن هذه المقاربة وهذا المثال من الكاتبة لم يكن للأسف موفقاً كما هي الحال بالنسبة لما سبقه من أمثلة.

النقطة الرابعة: الحوار جزء من الصراع:
بعد هذا العرض، خلصت الكاتبة لنافلة فكرتها قائلة: "إن المفاوضات لطالما كانت جزءاً من أي صراع.. المناضلون حاوروا المستعمرين والسجانين.. والمعارضون يحاورون سلطات يرفضونها كما يحدث الآن في اليمن وموريتانيا وحتى في سوريا رغم وحشية القمع إلا أن أنباء تتوارد عن محاورات سرية في روسيا.. فالحوار ليس استسلاماً ولا بيع ولا شراء.. إنه وسيلة حضارية لحل الخلافات والحد من الخسائر وهو –في حده الأدنى- وسيلة لشرح وجهات النظر وفهم الخصم وتقدير المواقف".

ونعقب على ذلك بالقول: إن الحوار جزء من أي صراع، فهذا أمر لا إشكال فيه، لكنه في كل الأحوال ليس كل الصراع، والجزء لا يطغى على الكل. وقد كان هذا الجزء حاضراً في صراع الشعب مع النظام طيلة العقود الماضية، إلا إذا كانت الكاتبة الكريمة تعتبر أن ما يجري في البحرين الآن هو حادثة أو "أزمة" كما يحلو للسياسيين أن يسموها فريدة من نوعها تحدث للمرة الأولى.. وقد أعطى الشعب النظام الفرصة تلو الأخرى فدخل في محاورات ومفاوضات نتجت عنها بعض المكاسب الشكلية التي تفاوتت بين عقد وآخر، لكنها انتهت بنفس الشكل والقالب والذي تمثل في نكث العهود والمواثيق.. ونذكر الكاتبة الكريمة والقارئ الفاضل ها هنا بأن أحداث التسعينات قد انتهت بالتفاوض والحوار الذي أنتج ميثاق العمل الوطني، وكانت بعض قيادات العمل الثوري اليوم جزءاً من التفاوض بالأمس، أي أنها لم تشط عن منهج الحروب والصراعات، بما في ذلك الصراعات في زمن السيف والمنجنيق والفيلة، حيث أن الحوار إذا ما فشل أو أن ميثاق ومعاهدات الحوار قد تم نقضها من قبل أي طرف، فإن الحرب تكون هي الفيصل حتى سقوط أحد طرفيها.. فكيف والنظام الخليفي قد دأب على نكث العهود مقابل ما دأب عليه الشعب عبر العقود من إبداء حسن النية والحالة السلمية بمنحه فرصة للحوار!!

أما في ما يتعلق بالحد الأدنى من الحوار حسب تعريف الكاتبة وهو كون الحوار "وسيلة لشرح وجهات النظر وفهم وتقدير المواقف"، فإننا سبق وأن ذكرنا، أن المسألة ما عادت وجهات نظر غير معروفة ولا مواقف غير مألوفة، بل إنها مسألة حرب معلنة من طرف يملك العدة والعتاد والحكم والبلاد ضد شعب أعزل يملك إيمانه وقناعاته، التي لا تخالفه فيها التشريعات السماوية ولا الوضعية، بأنه صاحب حق مهتضم. هذا من جهة أما من الجهة الأخرى، فإن تلك الحرب الشعواء التي شنها النظام ضد شعبه لم تقف عند حدود الحق الإنساني بل تعدته للحقوق الإلهية بانتهاك حرمات الله شِهاراً جِهارا.. وحيث أن الطرف المستضعف في هذه المعادلة يعبد رباً قال له: (أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)، فإنه إنما يمتثل أمر الخالق لا أمر المخلوق.

النقطة الخامسة: حوار السلطة مع الجمعيات المعارضة:
تشير الكاتبة إلى وجود "أحاديث مسربة تفيد بحوار قريب برعاية أمريكية" وأن قيايدي تجمع الفاتح الموالي قد نصبوا "صيوان عزاء لما تناهى لمسامعهم أن سيستثنون منه" وأن بعض المعارضين قد "سنوا حرابهم تأهباً للطعن في من سيشارك فيه".. وهنا لنا وقفات ثلاث:

الوقفة الأولى: الرعاية الأمريكية:
إن الرعاية الأمريكية للحوار المزعوم مرفوضة رفضاً قاطعاً نظراً لدخول الإدارة الأمريكية طرفاً في الصراع بتقديم الدعم السياسي والإعلامي بل والعسكري المباشر للنظام.. ولعله من المفيد التذكير بأن جل ما استنشقه أبناء الشعب العزل من غازات سامة ومعظم ما اخترق أجسادهم من الرصاص كان مصدره الولايات المتحدة الأمريكية التي بلغ حد استخفافها بأرواح الناس إلى المضي في إنفاذ صفقات سلاح للنظام المجرم وهي ترى رأي العين مواضع استخدامه، كما وابتعثت جنرالاتها لتدريب مرتزقة النظام ورسم الخطط لمواجهة الشعب الأعزل.. وكان أول غيث تلك التدريبات حشر عدد ليس باليسير من المدرعات في أزقة القرى.. فعلى فرض قبول مبدأ التحاور مع النظام برعاية ما، فإنها قطعاً لن تكون الرعاية الأمريكية أو البريطانية أو التركية أو السعودية أو الإماراتية أو الكويتية، وتطول قائمة الأنظمة الداعمة للنظام.

الوقفة الثانية: صيوان العزاء عند قيادي تجمع الفاتح:
ما يجب أن تعلمه الكاتبة الكريمة ويعلمه الجميع، أن الثوار لا يرون في تجمع الفاتح خصماً لهم رغم موقفهم الداعم والمؤيد لإجرام النظام، وإنما الخصم هو النظام. وعليه، فإن إقصاء بعض المواطنين (ولا يخص الحديث هنا جمع الآسيويين في تجمع الفاتح وإنما المواطنين الأصليين فقط)، لا يُعتبر من وجهة نظر الثوار الذين رغم ذلك الموقف المخزي من شريحة واسعة من أبناء السنة وليس كلهم وشريحة يسيرة من الشيعة وليس جُلُّهم، لم يتركوا شعارهم الذي به بدؤوا الثورة "إخوان سنة وشيعة وهذا الوطن ما نبيعه"، لا يعتبر هذا الإقصاء أمراً مفرحاً على الإطلاق، بل إنه موضع استهجان، فالبحرين ليست حكراً على الشيعة دون السنة، ولا على المسلمين دون غيرهم، كما أنها ليست حكراً على المعارضة دون الموالاة –ونكرر: رغم خزي موقفهم الذي يأمل الجميع أن يتبدل بعد أن يُعمِلوا عقولهم التي شبَّعها النظام بأوهام لا أساس لها في إطار حربه على شعبه- فالفيصل والحكم في من يقرر مصير البلاد مرهون بالمواطنة الحقيقية.. وهذا هو الشعار الذي يرفعه الثوار: حق الشعب –والموالاة جزء منه- في تقرير مصيره، ولم يرفع الثوار يوماً شعار: حق المعارضة في تقرير مصير البلاد..

الوقفة الثالثة: شحذ حِراب بعض المعارضين:
في هذه الوقفة نعمد لتصحيح عبارة الكاتبة وهي أن بعض المعارضين "قد سنّوا حرابهم تأهباً للطعن في من سيشارك فيه (أي الحوار)"، بأن هذا البعض الذي تعنيه الكاتبة، وهو البعض الثوري لا السياسي، قد انتهى منذ عام مضى من شحذ حرابه لطعن عدوِّه، ولم يعد في مرحلة الشحذ وإنما مرحلة السعي لإعادة حقه المسلوب بما شحذ من حراب.. ولن يقبل هذا البعض، أن يستفرد بعضٌ آخر بقراره، أو أن يصادر حقه في تقرير مصيره، تأسيساً على قاعدة أن ذلك البعض يرى ما لا يراه هذا البعض. فمن أراد أن لا يكون في موضع التهمة فليتجنب موضع الشبهات. ونشير بوضوح ها هنا، إلى أن الحراب لن تكون موجهة بسبب محاورة طرف للنظام في مرئياته، لكنها لن تكون مُنَكَّسة في حال نَصَّب ذلك البعض نفسه عنوةً نائباً عنه، فثورة الثوار إنما جاءت لتقول: نحن هنا ولنا أصواتنا ولا نقبل أن نساق سوق النعاج.

النقطة السادسة: الحوار الوطني – حوار حزيران:
أوردت الكاتبة مثالاً طريفاً للتدليل على صحة خيار الحوار، هو في الواقع ذاته المثال الذي يتبناه الثوار للتدليل على خطأ هذا الخيار، حيث قالت: "دخلت المعارضة في حزيران حوار الحكومة المزيف ممثلة بخمسة أعضاء وسط 300 مشارك، كانوا يدركون عقم الحوار بهذا القالب وانسحبوا سريعاً ولكنهم كسبوا بدخولهم نقطة.. وبانسحابهم أخرى".. والطريف في هذه العبارة هو أنها أشبه ما تكون بنسخة القرن الحادي والعشرين من عبارة القرن السابع والتي تقول: "إذا اجتهد المسلم فأصاب فله أجر، وإذا اجتهد وأخطأ كان له أجر".. والتي طبقها المطبلون من ذلك الزمن وحتى يومنا هذا على قتل يزيد الفاجر لسبط رسول الله (ص) الحسين بن علي، فقالوا: إن يزيد قد اجتهد في قتل الحسين فأخطأ فله أجر الاجتهاد!! فوا أسفاه على أمة اختارت عنوة أن تعطل عقلها لخدمة ميل نفسها..

إن موطن السخف في حديث الأجر في الصواب والخطأ، هو أنه يُقر ذات الثواب في حالين متناقضين، فيما سنة الحياة أن في الصواب ثواب وفي الخطأ عقاب، وهي سنة الله جل شأنه، كما أنها سنة القوانين الوضعية.. وهذا عينه ما نراه في تلك العبارة التي تحدثت عن مكسب في الدخول ومكسب في الانسحاب، ولم تشر من قريب أو بعيد لأي خسارة.. وهو أسلوب مقزز في تحويل كل خطأ يرتكبه القائد الأوحد (شخصاً كان أو جماعة) إلى حكمة ذات أبعاد لا يدركها إلا من رحِم ربي.

لقد تجنبنا في السابق الحديث عن حوار حزيران وما نتج عن المشاركة فيه، لكننا وبعد هذه الإثارة لابد وأن نتعرض له بشيء من البيان، وباقتضاب شديد، حيث أن الحديث في هذا الأمر يطول، علاوة على أن المقام ليس مقام هذا الحديث.

فلقد كان الجميع يعلم بفشل الحوار بمن فيهم الجمعيات السياسية المشاركة والنظام نفسه، إذ لم يكن غرض النظام من الحوار الوصول إلى نتيجة، وإنما تمثل غرضه في أمور ثلاثة هي: أولاً: الظهور أمام الرأي العام العالمي الذي خسره بفضل إعلام الثورة –والجمعيات السياسية جزء منها بطبيعة الحال- بمظهر الساعي لتصحيح المسار وإشراك القوى الشعبية في معالجة (الأزمة). ثانياً: كسب الوقت لإعادة ترتيب أوراقه التي اختلط فيها الحابل بالنابل لتضارب الرؤى والمناهج في صفوفه. ثالثاً: تحويل الصراع من صراع شعبي ضد النظام لصراع بين فئات شعبية، وبتعبير أدق بين تيارات مذهبية، وهي الصبغة التي سعى النظام لتكريسها منذ أن أدرك أن الثورة لم تقم لكي تنتهي بإصلاحات ترقيعية كما جرت العادة.

ولم يكن النظام ليحقق هذه الأغراض الثلاثة لو أن الجمعيات السياسية قد امتنعت عن المشاركة، لاسيما وأنه قد أضفى الصبغة الوطنية على ذلك الحوار، فسماه "الحوار الوطني".. وواقع الحال أنه لم لو تشارك الجمعيات السياسية في ذلك الحوار لما جاز له أن يسميه حواراً وطنياً لكون جميع المشاركين فيه هم من المنتمين لصبغة واحدة هي "الموالاة" بينما المعارضة غير ممثلة فيه.. ووفق الأعراف السياسية لا يصح الاعتداد بوطنية هذا الحوار لغياب طرف رئيسي عنه..

وعليه، فإن مشاركة بعض الجمعيات السياسية المعارضة قدمت للنظام طوق النجاة الذي كان يبحث عنه لإنقاذ نفسه من الغرق وسط تلك الأمواج المتلاطمة.. ولم يكن النظام يأمل أكثر من مجرد دخول جزء من المعارضة ولو لدقائق خمس في الحوار كي يتمكن من تثبيت الصبغة الوطنية عليه، وليكن الانسحاب فيما بعد. لذلك وجدنا اهتمام النظام بالغاً بمشاركة الجمعيات السياسية المعارضة –فيما عدا جمعية العمل الإسلامي التي زج بكل قياداتها في السجن لموقفها المعلن من تبني الإرادة الشعبية ورفض التحاور مع النظام لرفض الشارع له بالإضافة إلى قناعته المعلنة كتيار سياسي- بينما لم نجد ذات الإصرار من النظام عندما أعلنت الجمعيات المشاركة انسحابها.. بل إن النظام من خلال أبواقه وأقلامه المأجورة عمد للتأكيد في اللقاءات الإعلامية والمقالات وغير ذلك للتأكيد على أسَفِهِ لانسحاب تلك الجميعات وأمله أن تعدل عن هذا القرار مع احترامه لرغبتها في تعليق مشاركتها فيه.. وذلك من باب التعزيز الذهني لدى المتلقي بأن الجمعيات قد شاركت والسلام..

عوداً على ميزان المكاسب والخسائر، نقول: إن مشاركة الجمعيات كانت هي الخسارة الكبرى بالنسبة للساحة الثورية، ذلك أنها من جهة أضفت الطابع الوطني الذي تشدق به النظام وتشدق به حلفاؤه في الشرق والغرب لفترة من الزمن، ليتحقق بذلك الغرض الثاني المتمثل في كسب الوقت.. أما من الجهة الأخرى فقد تحقق الغرض الثالث المتمثل في تحويل مسار الصراع من الحالة الشعبية ضد النظام إلى الحالة المذهبية بين طائفتين، وذلك بمجرد قبول الجمعيات الجلوس على طرف المعارض مقابل خط المولاة على الطرف المقابل، فيما بدا النظام في موضع المدير للحوار، وهو ما يُستدل عليه برفع توصيات المتحاورين للملك للبت فيها، بينما يشكل النظام ومن ضمنه الملك، جزءاً أساسياً من الحوار، سواء قلنا بإسقاط النظام ورحيل الملك أو بإصلاحه وإقامة مملكة الدستورية، فالحالين سواء في كون الملك جزءاً من الصراع وليس مديراً له.

أما الخسارة الأخرى فتمثلت في الانسحاب من الحوار، حيث أن النظام عمل على قلب المشهد بإظهار عدم جدية المعارضة في الحوار وعدم قدرتها على الصمود وعدم تمتعها بالمرونة. وأيضاً، لفترة من الزمن فقط، حيث أن النظام يدرك أن هذا الملعوب إنما مآله للزوال، غير أن حاجته للوقت –الغرض الثاني- تعتبر ماسة وكبيرة، وقد منحت الجمعيات النظام بهذه المشاركة ما كان يبحث عنه.

وعليه، فإن دخول الحوار والانسحاب منه قد شكل كلاهما خسارة لا مكسباً.. غير أن الانسحاب عزز رؤية الثوار في رفض التحاور مع نظام دأب على نكث العهود والمواثيق. ومن هذه الزاوية فقط، نقول أن الانسحاب قد شكل مكسباً جزئياً، وهو مكسب بطبيعة الحال لصالح الثوار لا السياسيين.

نكتفي بهذا القدر في شأن حوار حزيران، ولعلها تسنح الفرصة مستقبلاً للخوض في تفصيل أكبر، إذ يحتاج الأمر إلى وقفات عديدة لا يتسع لها المقام.


النقطة السابعة: النفع والضرر في الحوار مع النظام:
تقول الكاتبة: "شخصياً أشجع على أية مفاوضات وحل سياسي يقودنا للدولة العصرية التي نصبو لها. ومثلكم جميعاً لا أقبل إلا بإعادة الاعتبار للضحايا ومحاكمة الجلادين وتغيير جذري في بنية النظام يُعفي الأجيال القادمة مما قاسيناه".. والسؤال هنا: أليس الملك بحكم موضعه، وبحكم علمه بكل ما يجري من في البلاد وبممارسات الجيش والأمن وأجهزة الإعلام الرسمية لما أسماه بالحفاظ على الأمن، وهو ما اعترف به شخصياً على شاشات التلفاز، وكذلك اعتذاره عن سقوط الشهداء في بداية الثورة، ما يدلل على علمه بالفعل بما يجري، أليس هو في موضع الجلاد؟ فإن كانت الكاتبة ترى أنه كذلك، فكيف تدعو للحوار مع الجلاد حول إخضاعه للمحاكمة وتطبيق القصاص عليه إذا ما ثبت عليه الجرم؟ وإن لم تكن ترَ ذلك، فهذا يستلزم إعادة النظر، إذ ليس من المنطقي أن يقف القاتل فيقول أنا القاتل، ثم يبني الدفاع مرافعته على أساس براءته من التهمة المنسوبة إليه، بينما القاعدة القانونية أن الاعتراف سيد الأدلة.

أما السؤال الآخر، والذي نوجهه لكل من يتبنى رأي الحوار مع النظام الدموي القاتل وليس للكاتبة فقط، فهو: إننا قد بينا الضرر من الحوار، فهلا بينتم المنافع منه بمنهجية علمية لا بكلام مرسل وصلاة إلى الرب بأن يكون النظام صادقاً في هذه المرة ويفي بوعوده، فنحن كما الكاتبة الكريمة: نريد حلاً جذرياً يُعفي الأجيال القادمة مما قاسيناه.. فإذا ما بينتم ذلك ففاق النفع الضرر، عدلنا عن ما نراه، وإلا كان إصرارنا على رفض الحوار والمضي في الثورة هو خيارنا، وذلك عملاً بالتحريم بناء على قاعدة الضرر والنفع، حيث تكون القبول إذا فاق النفع الضرر (مع تفاوت درجة القبول بين الجواز والوجوب) ويكون الاجتناب إذا فاق الضرر النفع (مع تفاوت درجة الحرمة بين الكراهة والحرمة).. قال تعالى (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما)..

النقطة الثامنة: لماذا استشهد الشهداء؟
تتساءل الكاتبة الكريمة: "هل فاضت تلك الأرواح الطاهرة في سبيل غدٍ أفضل للوطن والأجيال القادمة أم سال نكاية في فلان وعلان؟" ثم تسترسل قائلة: "قضيتنا أكبر من شخوص.. إنها قضية كرامة وبناء دولة ولن يفيدنا أن نغير كل وجوه النظام لو لم يتغير حالنا جذريا.. فالعنب لا رأس الناطور هو مبتغانا، وتقويم الإعوجاج العام –لا تبديل الوجوه- يجب أن يكون هدفنا الأسمى"..

ويؤسفنا أن تعود الكاتبة لتختم مقالها بمغالطة جديدة تقوم على أساس تحوير وتزييف موقف الثوار على أنه موجه ضد شخوص، لمجرد أنها لا تتبنى هذا الرأي، بينما يتبنى الثوار إسقاط نظام قائم وإقامة نظام بديل يقوم على أساس توفير الضمانة الكافية لامتلاك الشعب سلطته الكاملة غير المنقوصة، وهي ضمانة لا يمكن توافرها في النظام القائم اعتماداً على ما تقدم من خبرات وتجارب. ولو كان ذلك ممكنا لكان في ما مر من الزمن.. ولعل الأمر التبس على الكاتبة في فهم شعار الثوار: "يسقط حمد" بأن المطلوب هو إقصاء حمد عن سدة الحكم والإتيان بملك آخر مكانه كابنه سلمان أو غيره، أو حتى ملك من عائلة أخرى.. فهذا مطلب السياسيين الساعين لتغيير الوجوه لا مطلب الثوار.. فشعار "يسقط حمد" ينطلق من كون "حمد" رأس النظام وممثله، لا من كونه حمد بن عيسى. أي أن مطلب الثوار ومساعيهم للعنب، بينما مساعي السياسيين الناطور المتمثل في هذا السياق في رئيس الوزراء المطلوب إزاحته والإبقاء على ملكٍ هَدَمَ المساجد وأحرق القرآن وهتك الأعراض والحرمات في قالب مملكة دستورية، أي أن يكون ملكاً رمزاً للبلاد، وعليه فإن المواطن البحريني يكون منتمياً لوطن رمزه من أشهَرَ سلاحه لحرب الله جلت عظمته.

مما تقدم، يتبين أن الحوار خيارٌ لا "حتمية" فيه، وأن الدخول فيه إنما يعتبر انتحاراً سياسياً وأخلاقياً. وإننا إن كنا نصر على رفض تخوين أي طرف، إلا أننا لابد وأن نلفت النظر إلى أن من رأى الخطأ بعدما تبين له، وأصر على المضي فيه اعتزازاً برأيه وتجاوزاً على الحقائق والوقائع بدعوى أنه الممكن وما دونه غير ممكن، فلا يلومنَّ من قال له إنك مخطئ وإنما يكون اللوم والعتب والأسف لنفسه، فترك الخطأ أولى من الأسف والندم عليه.

ونختم القول بكلمات للكاتبة الكريمة كانت قد ألقتها على مسامع الثوار في دوار الشهداء، تشمل ما ورد في هذه (المصارحة) من أمور وما كان قد ورد في (مصارحتها) الأولى حول ترك الانتقاد لعدم ملاءمة الوقت لذلك، إذ تقول:

"عندما تتعامى عن الحقيقة، هناك حقيقة أمامك لكنك تختار أن لا تراها، أنا في الحقيقة أتعرض للانتقاد حتى من المعارضين أحياناً لأني أكشف بعض الحقائق وأنتقد. أنا انتقدت أشياءاً حدثت في الدوار، فقال لي بعض الإخوان وأرسلوا لي (إيميلات): لماذا تنتقديننا في هذا الظرف الحرج؟ فهذا ظرف كبير ولا نريد أي صوت داخلي ينتقدنا، فأجبتهم ببساطة: أنا انتقدتكم لكي لا أحتقر نفسي، وإلا فما الفرق بيني وبين هؤلاء الكتاب الذين يرون الله غفوراً رحيماً على جماعتهم وشديد العقاب إذا كان الأمر يتعلق بأخطاء جماعة أخرى!! الإنصاف له وجه واحد فقط لا عدة وجوه. أنت تكون منصفاً في كلمة الحق. ومن يغضب اليوم يرضى غداً، ومن يرضى غداً يغضب بعد غد."

اللهم أفرغ علينا صبرا، وتوفنا مسلمين، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق وآله الطيبين الطاهرين.

الأربعاء، 22 فبراير 2012

حديث المطارحة الأول: الوفاق حول الشقاق

صوت الثورة

رغم ما نبذله من جهد ليس باليسير لتفادي الانشغال بالرد والتفنيد للأطروحات التسقيطية، إلا أننا لم نجد بُداً من التوقف عن واحدة من هذه الأطروحات، لا لكونها الأولى، ولن تكون بطبيعة الحال الأخيرة، إنما لما طفح فيها من مغالطات لم تترك لنا مجالاً سوى التوقف عندها، لاسيما في هذا الوقت الحرج من ثورتنا المباركة. هذه المقالة هي مقالة الكاتبة الكريمة لميس ضيف، المعنونة (الرسالة (37): حديث المصارحة الأول: الشقاق حول الوفاق..)، والمؤرخة 21 فبراير 2012.

كما هي العادة، قبل الخوض في الموضوع، لابد من الإشارة إلى بعض المقدمات الأساسية للإلمام بأبعاده ومضامينه:

أولاً: إننا نؤمن بتعدد الآراء لما في ذلك من أثر في إثراء الساحة الفكرية، سواء كان الحديث في الشأن السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الديني، أو غير ذلك من المجالات. غير أن هذا الإيمان لا يعني مطلقاً التجاوز عن بعض الآراء عندما تخرج عن حدود الرأي الناقد لتدخل عُنوةً في إطار التسقيط وتمييل كفة على حساب الأخرى. لاسيما عندما يكون العنوان العام دعوة لعدم التسقيط فيما تكون الدعوة تسقيطاً للطرف المقابل. ومن المفيد هنا التذكير بالتالي:
يَــــا ذا المُعلم غَيرَهُ هَـــــلاَّ  - لنفسكَ كـان ذا التــعـلـيـــمُ
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها  - فــإذا انتهت فأنت حــكـيـــمُ
لا تَـنـهَ عن خُلُقٍ وتأتي مِثلَهُ  - عَارٌ عليكَ إذا فَعلتَ عـظـيـمُ

ثانياً: ليس المهم في الكتابة ظاهر الحروف والكلمات وإنما باطن المعاني والمضامين. فالكاتبُ –أي كاتب- يمكن أن يُطوِّعَ الحروف بفنٍ وإتقان ليصوغ منها لوحة في غاية الروعة، لكن ما يكمن في طياتها يفوح بالعَطَبْ، أو على أقل تقدير يكون غير ذي فائدة تُرتَجى، فيحاول القارئ يمينا وشمالا أن يفهم ما يريد الكاتب قوله لكن عقله لا يسعفه، لا لقصور في عقل القارئ وإنما لخواء المقال من المحتوى والمضمون، تماماً كتلك الأبيات الشعرية الموزونة وزناً جميلا لكن قائلها فضلا عن قارئها لابد وأن يَعيَ في الوصول لمعناها:

ومُدغشرٍ في القحطلينِ تَحَشْرَمَتْ  -  شُــرنــافــتـاهُ فَخَـرَّ كالخُــربَــعْــصِلِ
الهَـيـــكـــزوب الكيكــزوب تَهَيْهَعَتْ  -  مِــنْ رَوْكَـــةٍ فــي العَنقَبوتِ المُنَفَّلِ

وبمعنى أكثر بساطة، نقول: إذا قال لك أحدهم: أنا لست أشتمك يا غبي، ولا أستهزئ بك يا حمار (أجلَّ الله القارئ الكريم)، فإنك إنما تتحول للمعنى ولا تأخذ بظاهر الكلام القائم على النفي، ذلك أن العقل بفطرته يبحث عن المضمون لا الشكل والصورة.

ثالثاً: سبق وأن أشرنا في مقالات سابقة إلى ما يحاول البعض تكريسه من إبعاد العامة عن النقد والانتقاد بدعوى الأعلمية عند طرف ما وقصور الطرف الآخر عن الوصول لما حبى الله به الطرف الأول من العلم والمعرفة والحكمة في الأصول والفروع، وذلك نبذاً للشقاق. وهي دعوةٌ للتجهيل وتعطيل العقل باختزال آلاف العقول في عقل القائد الأوحد. وهذه دعوة مرفوضة رفضاً قاطعاً لمنافاتها لمبدأ إعمال العقل ونبذ التبعية العمياء. وعليه، فإن أي دعوى بهذا الاتجاه هي دعوة مردودة، وإن فصَّل أو بالغ صاحبها في عرضها، وبغض النظر عن ماهية صاحبها أو مقامه أو علمه.

رابعاً: إن الغرض من هذه المقالة مناقشة طرح لا تسقيط الطارح، وعليه فإننا نأمل من القارئ الكريم أن لا يُحمِّل المقال ما لا يحتمل.


استفتحت كاتبة المقال مقالتها المذكورة (الرسالة 37) بالتأكيد على أنها ليست وفاقية وأنها تنأى بنفسها عن أي جمعية أو تيار قائم، ثم استطردت في التدليل على معارضتها للكثير من أطروحات جمعية الوفاق في ما مضى، مؤكدة على أنها ستستأنف مناكفتهم في ما بعد. كما شملت الافتاحية التأكيد على وطنية الوفاق وإخلاصها، وهو أمر لا نختلف عليه، بل نزيد فيه على الجميع.

بعد هذه الافتتاحية، أوردت الكاتبة أولى المغالطات التي دعتنا لمناقشة هذا الطرح، والتي تمثلت في عبارة الكاتبة: "لدينا هدف محدد: إزاحة هذه الحكومة التي أثبتت أنها تزدرينا وتستهين بأرواحنا وأعراضنا وأموالنا وحقوقنا وإبدالها بأخرى – عصرية مدنية – توقر المواطن وتحترم الحريات وسيادة القانون".. والواقع أن هذا الهدف هو هدف جمعية الوفاق وأربع جميعات متحالفة معها، مع مخالفة جميعة العمل الإسلامي وهي كيان سياسي مرخص كما هي حال الجمعيات الخمس الأخرى، وكذلك مخالفة التيارات الشعبية غير المرخصة وفي مقدمتها تيار الوفاء وحركة حق وحركة ائتلاف 14 فبراير التي أقرت الكاتبة في مقالها بموقعها وأهميتها وشعبيتها، وكلها كيانات تحظى بحصة ليست باليسيرة من الشارع. هذه الكيانات وغيرها تتبنى هدفاً معلناً هو "إسقاط النظام" وليس "إسقاط الحكومة"، وشتان بين الهدفين، فيما ذهب تياران اثنان لإيضاح أجندتهما السياسية بما لا يدع مجالاً للتأويل أو الشك، وهما تيار الوفاء وحركة حق، فطالبا بإقامة نظام جمهوري يكون الشعب فيه مصدر السلطات.. وعليه فإن القول بوحدة الهدف بين جمعيات التحالف الخماسي وبقية فصائل المعارضة في "إسقاط الحكومة" إنما ينطوي على إلغاء شريحة واسعة من المعارضة، تحت مسمى "الوحدة"، وهو أمر مرفوض من حيث المبدأ كما أشرنا في العديد من مقالاتنا السابقة وفي مقدمة الحديث.

وتأتي هذه المغالطة للتأسيس لما تلاها من نتيجة عرضتها الكاتبة في رؤية شخصية بقولها: "لا أرى قيادة تصلح للسير بنا في هذا الطريق الوعر الآن سوى الوفاق سواء شئنا أم أبينا".. الأمر الذي يؤكد ما خلصنا إليه من الإمعان في "إلغاء الآخر" في ما سبق من حديث. كما يؤكد هذا الإمعان محاولة إخراج الحركات الثورية الشعبية من دائرة الكينونة إلى دائرة الوهم، تمهيداً لإلغائها في اللاحق من فقرات المقال، والتي سنتعرض لها في ما يلي من حديث، حيث تقول الكاتبة واصفة الحركات الشبابية عموماً وائتلاف 14 فبراير خصوصاً: "نعترف بهم ونقدرهم ولكننا لا نعرفهم، ولا نستطيع محاورتهم أو التعاطي معهم علناً لذا فهم روح أكثر منهم كيان".. وهذه هي المغالطة الثانية، حيث أنه لو كان كلُّ غيرِ مرئيٍ غيرَ كائن، لاستلزم ذلك إنكار الروح أساساً، ذلك أنها غير مرئية، ويجري مجرى ذلك إنكار وجود الألم والفرح والحب وغيرها، بل وإنكار وجود الله جل شأنه –وحاشى ربنا ذلك..

وهنا نسترعي انتباه الكاتبة الكريمة والقارئ الفاضل، إلى أن الموجودَ إما محسوسٌ أو مُدرَّك، فما دل الإدراك على وجوده كان كما المحسوس في وجوده. وكذلك هي الحال بالنسبة لقصور المعرفة بالشيء، فعدم العلم بأمر أو شيء ما لا يعني عدمه من الوجود. والحال أن الحركات الشعبية ومنها ائتلاف 14 فبراير وغيرها هي الحركات ذات كيونونة حقيقية لا وهمَ ولا خيالَ فيها باعتبار إدراك أثر وجودها مع انعدام رؤية صورتها، وهو انعدام تعلم الكاتبة ويعلم الجميع سببه، بل إن ظهور هذه الكيانات المدركة في قالبٍ حسيٍ إنما سيؤول دون أدنى شكٍ أو ريبٍ لفنائها على يد النظام أو غيره.

أما المغالطة الثالثة، فتتمثل في تقزيم الطرف غير المرغوب وتعظيم الطرف المطلوب، وذلك من خلال مقارنة مجحفة لا تستند على الدلائل والبراهين، وإنما الإنشاء والاسترسال، وهو أمر لا يُقره العقل. تقول الكاتبة الكريمة: "الثائر لا يعترف بالحسابات ولا بالمعادلات ولا يجيد التعامل مع وجهات النظر المختلفة.. أما السياسي فيقرأ الممكنات ويؤجل الأهداف وفقاً لرؤية بانورامية للمشهد".. فيما تشير الوقائع الملموسة على الأرض –بعيداً عن خطأ التعميم الذي وقعت فيه الكاتبة- إلى أن قدرة الثوار في البحرين على التعامل مع وجهات النظر المغايرة قد فاقت بكل المقاييس قدرة السياسيين على ذلك. فبينما يُقرُّ الثوار حق الجمعيات السياسية في تبني رأيها، ويؤكدون الدعوة مراراً وتكراراً لدعمها، بل ويُحشِّدون لتجمعاتها وفعالياتها، تُصرُّ الجمعيات السياسية على إنكار الحالة الثورية باختزال الوضع القائم في صفة "الأزمة السياسية"، ويصر السياسيون على تهميش الرأي الثوري الهادف لإسقاط النظام بازدرائه، فتارة يحجِّمونه بالقول أنه لا يتجاوز الخمسة في المائة، وتارة ينعتونه بالتطرف. أما في ما يتعلق بالحسابات والمعادلات، فللثوار حساباتهم ومعادلاتهم المبنية على معطيات الواقع، بينما للسياسيين حساباتهم ومعادلاتهم المبنية على الوهم. وحيث أن الأمثلة في هذا الشأن لا يتسع لها المقام، نكتفي بالتعرض لمثال واحد حتى لا نَنهَ عن خلق الاسترسال والإنشاء فنأتي بمثله. فنظرة خاطفة على مبنى قناعات الثوار التي أفضت لرسم ملامح هدفهم توضح بجلاء أن معطيات تلك المعادلات هي وقائع ثابتة منها على سبيل المثال لا الحصر تكرار نكث العهود من النظام وتعميق سياسة الإقصاء بمختلف الصور والتي يأتي من بينها التجنيس والتمييز على أساس الولاء والمذهب وتفويت ما كان أعطي للنظام من فرص عبر العقود السابقة. وفي المقابل، نجد حسابات ومعادلات السياسيين قائمة على الاعتبارات الإقليمية والتخوف من حرب أهلية وما إلى ذلك من أمور تكهنية لا قطعية، علاوة على منافاتها لمبدأ الحقوق الأساسية، فهم – أي السياسيين- أشبه برب البيت الذي يحرم بناته من التعليم لأن جاره يرى أن تعليم الفتاة عيب أو غير جائز، أو لأن تعليمهم قد يسبب خلافاً بينه وجاره..

أما صورة التقزيم والتعظيم الثانية فجاءت على النحو التالي: "الثائر مقدام مغامر لا يهمه الثمن ولا الضرر في سبيل الهدف الأسمى.. أما السياسي فيتحقق من تفوق الأرباح على الخسائر، ومن الإبقاء على نوافذ ومساحة مناورة.. وأن التضحيات والأضرار تكون مؤطرة ولا تتخطى سقفاً يزيد الضحايا بؤساً فوق بؤسهم".. وبطلان هذه المقارنة يتأسس على أمرين، يتمثل الأول في تعريف "الهدف الأسمى"، فيما يتمثل الثاني في التهويل السلبي للنتائج.. أما بالنسبة للأمر الأول، وهو "الهدف الأسمى"، فإن الأهداف تأتي في رُتَب، أعلاها هو "الأسمى"، وأدناها هو "الهدف التمكيني المرحلي"، وهو الهدف الموصل للهدف الأسمى. فبينما يكون الهدف التمكيني متحركاً تحكمه المعطيات والوقائع، يظل الهدف الأسمى ثابتاً غير قابل للتجزئ، فإذا ما تحرك أو تجزأ كان هدفاً تمكينياً لا هدفاً أسمى. وفي هذا السياق، نرى أن للثوار هدفاً أسمى يتمثل في "إسقاط النظام" وأهدافاً تمكينية متحركة تتعدد وتتنوع وتتحرك وتتجزأ حسب المعطيات والوقائع لكنها تسير في ذات المسار المؤدي للهدف الأسمى، ومثال ذلك، الوصول لميدان الشهداء وهو هدف مرحلي تمكيني يؤدي حال تحققه للاقتراب من الهدف الأسمى المتمثل في إسقاط النظام. وفي المقابل، فإننا نجد الجمعيات السياسية تعمل وفق مبادئ "فن الممكن"، أي أن لها أهدافاً تمكينية فقط فيما ليس لها هدف أسمى تسعى إليه، فهي تقبل بما هو ممكن فقط.

ومعنى ثبات الهدف تحوله لمبدأ، ما يجعل الابتعاد عن الهدف ابتعاد عن المبدأ، وانعدام الهدف انعدام المبدأ. والحال وفق ما سبق أن للثوار هدف أسمى لا يقابله هدف أسمى للسياسيين لسيرهم وفق منهج فن الممكن كما سلفت الإشارة. ونستدل هاهنا بإقرار الكاتبة في ذات المقال لاحقاً: "ولا أشك أن نقاء الثائر ومبادئه أسمى من مبادئ السياسيين".

أما الأمر الثاني والمتمثل في التهويل السلبي للنتائج، فتمثله كلمات الكاتبة "وأن التضحيات والأضرار تكون مؤطرة ولا تتخطى سقفاً يزيد الضاحيا بؤساً فوق بؤسهم"، وهو إيحاء للقارئ بأن نجاح الثوار في الوصول لهدفهم الأسمى إنما يشكل حالة من الضرر الكبير على المجتمع لعدم مقدرتهم على إدارة دفة السياسة –وهو ما تؤكده المقارنات اللاحقة في ذات المقال والتي سيلي عرضها- دون تعريف من الكاتبة بطبيعة ذلك البؤس والضرر. وإذا ما عدنا للوراء قليلاً لنلقي نظرة خاطفة على بواعث الثورة في البحرين، فإننا نجد أنها تتمثل في ثلاثة أبعاد رئيسية هي البعد الإنساني المتمثل في الكرامة المهدورة والبعد الحقوقي المتمثل في الانتهاكات المتكررة والبعد السياسي المتمثل في التفرد في صنع القرار. وحيث أن السياسيين يعملون بفن الممكن الذي امتدحته الكاتبة، فإنه بالنتيجة إذا لم يكن تحقيق الكرامة الكاملة على سبيل المثال ممكناً، فإن السياسي يقبل بجزء من الكرامة، وإن لم يكن الوصول للحقوق المدنية والتشريعية ممكناً، فإن الوصول لبعضها يُعتبر إنجازاً، وإن لم يكن في الإمكان تحقيق إنسانية إنسان هذه الأرض كاملة، فإنه من المقبول لدى السياسيين تعرضه لبعض الامتهان.. والسؤال هنا، أي النتائج أكثر بؤساً وضرراً وكارثية؟ هل هي تحقيق الكرامة والإنسانية والحقوق كاملة غير منقوصة، أم اجتزاؤها ضمن حدود الإمكان الذي يراه السياسيون مع ملاحظة تفاوت تعريف السياسيين لذلك الممكن؟!!

في الصورة الثالثة للتقزيم والتعظيم، رأت الكاتبة أن "الثائر لا يملك حلولاً شاملة ورؤية واضحة وليس ملزماً بأن يكون مفكراً.. أما السياسي بلا رؤية فهو كالسفينة بلا بوصلة ولا شراع".. وكما هي الحال بالنسبة للصور الأخرى فإن الصورة تقوم على الكلام المرسل غير القائم على الدليل وعلى فرضية لا تستند لبرهان وهي أنه ليس بين الثوار سياسيون قديرون، وهو أمرٌ يرفضه العقلاء، ولعله لا يقره غير السياسيين المعنيين باعتبارهم موضع المدح في هذه العبارة المغلوطة. فالثوار –وليس الائتلاف كل الثوار وإنما جزء منهم- كانوا الأسبق في تقديم صورة شمولية واضحة المعالم، ولا يعني عدم اطلاع الكاتبة عليها إنكار وجودها كما سبق البيان في مقدمة الحديث. الثوار هم من طرحوا إسقاط النظام وإقامة نظام بديل يقوم على أساس واحد هو أن الشعب مصدر السلطات جميعاً، وهم من طرحوا إنشاء مجلس تأسيسي منتخب من الشعب بحيث تكون له الصفة التمثيلية الحقيقية لكل فئات الشعب دون استثناء بما في ذلك فئات الموالاة التي تتخذ موقف العداء من الثورة لما تم شحنها به من أوهام ومخاوف، وهم من طرحوا إسقاط الدستور وإيكال مهمة صياغة دستور عقدي توافقي من خلال المجلس التاسيسي المنتخب، وهم من طرحوا قالبا تنظيمياً للحياة السياسية والحقوقية يقوم على أساس حرية التعبير عن الرأي وتجريم انتهاك الحقوق. ثم جاءت الجمعيات السياسية مؤخراً بصياغة كل ذلك في وثيقة تمثل مرئياتها التي كان فيها شيء من هذا وقليل من ذاك، من كل ما طرحه الثوار عدا إسقاط النظام وإقامة نظام بديل، دون أن تقدم أدبياتهم السابقة للوثيقة واللاحقة لها والوثيقة نفسها أي قالب تأطيري للحل السياسي الشامل، إذ لم تعدُ هذه الوثيقة وغيرها مما سبق أو لحق كونها مرئيات حول آلية إيجاد القالب التنظيمي، والتي يأتي الحوار في سياقها. فإذا ما سلمنا جدلاً بصحة تلك العبارة للكاتبة، فالناتج يكون أن الثوار ساسة بامتياز، بينما السياسيون ثوارٌ قاصرون.

المقارنة الرابعة تقوم على أساس سليم لا إشكال فيه، غير أن ورودها في سياق التقزيم والتعظيم يحرف معناها ليخدم ذلك التقزيم والتعظيم. هذه المقارنة هي أن "الثائر قد يملك القوة ولكنه قلما يمتلك المرونة – السياسي مُلزم بامتلاكها وإلا لفظته السياسة كحسك السمك".. والغرض من قولنا أنها مقارنة سليمة هو إعادة تأهيل المعنى لنفي حالة التقزيم التي أدى إليها السياق. أجل قلما يمتلك الثائر المرونة لأنه يتبنى ما أشرنا إليه سلفاً بالهدف الأسمى، فلا مرونة في بلوغ الهدف الأسمى –والذي قلنا أنه غير قابل للتجزأ أو التحرك- رغم قيام حالة المرونة في الأهداف التمكينية المرحلية. أما السياسي فالمرونة ديدنه ومنهجه لعمله وفق قاعدة فن الممكن، فإذا لم يتحلَّ بهذه المرونة لفظته السياسة كحسك السمك، كما عبرت الكاتبة. وبالعودة للمقارنة السابقة –الصورة الثالثة- فإن من لا يملك الرؤية إنما يكون كالسفينة بلا بوصلة ولا شراع، البوصلة للإشارة لثبات الهدف إذ لا يتغير عقرب البوصلة بتغير وجهتها أو موقعها، والشراع إشارة للوسيلة نحو بلوغه، وهو أمر غير متحقق في الساسة وفق الوقائع التي أوردناها سابقاً، والكثير مما لم نورد روماً للاختصار.

المقارنة الخامسة والأخيرة في هذا المقال هي أن "الثائر يرى الدنيا بلونين.. السياسي يرى الألوان كلها ولكنه يلوذ بالمنطقة الرمادية"، وإن دلت هذه العبارة على شيء فإنما تدل سمو الثائر وشفافيته، إذ أنه يختار لوناً من بين لونين يراهما، بينما يختار السياسي عنوة اللون الرمادي من بين كل الألوان التي يراها. وليس في رؤية الثائر للونين فقط أي قصور أو نقص، ذلك أنه يؤسس رؤيته على أساس قاعدة الثنائية بين المتضادات –وهي قاعدة إلهية لا دخل للبشر في تكوينها- فهو يرى لونين، ولنقل الأسود والأبيض، تمشياً مع طرفي القاعدة الثنائية المتمثلة في الحق والباطل، لذلك فإنه ينأى بنفسه عن الاقتراب من الباطل بالمكوث في دائرة الحق. أما السياسي فإنه وفق هذه القاعدة، يختار عنوة مساحة بين الحق والباطل، وهي المساحة الرمادية التي يختلط فيها الأسود بالأبيض، أي الحق بالباطل. لذلك أتبعت الكاتبة الكريمة تلك العبارة مباشرة بقولها: "ولا أشك أن نقاء الثائر ومبادئه أسمى من مبادئ السياسيين"، إلا أنها عادت للاستدراك بإيراد المبرر لميل السياسي بين الحق والباطل قائلة: "لكن السياسة لا تقاد بالعضلات ولم تعد المكاسب في عالم اليوم تنتزع بالسيف".

بهذا تنتهي صور التقزيم والتعظيم التي أوردتها الكاتبة الكريمة بناء على كلام مرسل، والتي حاولنا باقتضاب شديد جداً جداً أن نعيد فيها التوازن اعتماداً على الوقائع والأحداث، لتنتقل بفقرة ختامية للمقال تورد فيها أمثلة لثوار فشلوا عندما وضعوا قبعة السياسة، كأمثال جيفارا وتشافيز وكاسترو والجيلاني والقذافي، غير أنها أغفلت حقيقة أن السياسيين الذين روج لهم المقال، وهم قيادات الوفاق تحديداً، حيث قالت في مطلع الحديث: "لا أرى قيادة تصلح للسير بنا في هذا الطريق الوعر الآن سوى الوفاق سواء شئنا أم أبينا"، هؤلاء السياسيين الذين تمتدحهم اليوم ولا ترى غيرهم أقدر على قيادة دفة الركب، كانوا بالأمس القريب جزءاً من ثوار التسعينات!!

فإذا ما سلم القارئ الكريم بخطأ ما أوردنا في هذا المقال، وصحة ما أوردت الكاتبة، فإنه يتعين قطعاً عدم الأخذ بالرؤية التي طرحتها الكاتبة، لما خلصت إليه من نتيجة واضحة جلية من أن الثوار هم سياسيون فاشلون، وكما قلنا فإن سياسيي الوفاق هم بالأمس القريب جزء من الثوار، أي أنهم –حسب تحليل الكاتبة- لابد وأن يقودوا الساحة للفشل. أما إذا رأى القارئ الكريم أن ما أوردنا قد قارب الصواب فإن المتعين هنا هو تقديم الثوار على السياسيين لما لهم من شمولية النظر وثبات المبادئ والأهداف وسلامة المنهج نحو تحقيق الهدف الأسمى، كما أوضحنا في ما سلف.

بقيت إشارة أخيرة قبل أن نختم هذا المقال، وهي أن السياسيين ممثلين في الجمعيات السياسية في المستوى الأعم، وداخل جمعية الوفاق في المستوى الأخص، غير متوافقين أساساً وإن وُجدت مواضع تقاطع في ظل الظروف الراهنة، لكنها عرضة للتغير سريعاً باعتبار أن مبدأ السياسيين هو "فن الممكن"، والممكن في هذا السياق هلامي في طابعه، ليس له تعريف محدد، فمتى ما تفاوتت التعريفات كان الفراق.. والأمثلة من الساحة المحلية كثيرة لا يتسع المقام لذكرها، غير أن المطلع على الشأن السياسي عبر العقود الماضية يدركها بجلاء.. وعليه، فإن الدعوة للاصطفاف خلف السياسيين (سواء الوفاق أو غيرها) عوضاً عن الثوار، هي دعوى للوفاق حول الشقاق..

(وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)

اللهم أفرغ علينا صبراً، وتوفنا مسلمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأزكى السلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

الثلاثاء، 21 فبراير 2012

الحوار وقرار الشعب

صوت الثورة

استكمالا لما كنا قد طرحناه في مواضيع سابقة حول مسألة الحوار، ورأينا القاطع في بطلان الحوار من حيث المبدأ لا من حيث الشكل أو جهة التفاوض، نتناول في هذه المقالة وجهة النظر المؤيدة للحوار والتي يتلخص طرحها في "التحاور، ثم القرار للشعب"..

وقبل البدء في هذا العرض نجد أنفسنا مضطرين لإعادة التأكيد على أن المسألة لا ترتبط بشخص المُحاور، ولا تنبعث من موقف موجه ضد الجمعيات السياسية باعتبارها الجهة المتمسكة بهذا الخيار، فهو حق لها لا إشكال فيه، كما أن حق الأطراف الأخرى أفرادا وكيانات التمسك بمرئياتهم المتمحورة حول رفض الحوار، دون أن يحق لأي طرف أن يلغي الطرف الآخر أو يسفِّه مرئياته. إنما الأمر مرتبط برفض مبدأ الحوار مع النظام الخليفي أو من يمثله فيما يرتبط بأصل وموضوع الثورة. فلو أن ائتلاف ١٤ فبراير على سبيل المثال لا الحصر، أو أي حركة ميدانية أو سياسية أخرى عدلت عن رأيها فرأت الدخول في حوار مع النظام، فإن الأمر بالنسبة لنا سيان، ولن يختلف الموقف تبعاً لهذا التغيير..

كمقدمة أساسية لفهم الموضوع المطروح في هذه المقالة، نشير إلى بعض الأمور الرئيسية، وهي:

أولا: إن الأطراف المتبنية لخيار الحوار تصر في توصيفها للوضع القائم على أنه "أزمة سياسية" لا يمكن الخروج منها إلا بـ"حل سياسي". والغرض من هذا التوصيف هو الهروب من حقيقة أن الاعتراف بوصف "الثورة" إنما يقتضي التسليم باحتمالية "إسقاط النظام" كنتيجة، وهو أمر لا يقرّه المنتمون لهذا الخيار إطلاقاً، على الأقل وفق التوصيف الشعبي لمفهوم "إسقاط النظام". والأمر هاهنا مرتبط بأدبيات هذه الأطراف لا بالتصريحات والخطابات الجماهيرية والإعلامية التي لا تخلو من استخدام مفردة "الثورة" لما في ذلك من ملامسة للعواطف المتأججة، ودرءاً لحالة الهيجان لدى شريحة من الجماهير.

ثانيا: تكريس وصف "الأزمة السياسية" للوضع القائم، وانحسار حلحلتها في "الحل السياسي"، إنما يُبعد عن المشهد كل طرف "غير سياسي" وفق الأطر القانونية في النظام القائم، وهذا يشمل بطبيعة الحال كل الكيانات غير المرخصة بمن فيهم الحركات الميدانية وفصائل المعارضة الأخرى في الداخل والخارج. ولهذا نجد إصرارا واضحاً رغم النقد المتواصل والعلني على وصف مرئيات الجمعيات السياسية الخمس الموقعة على "وثيقة المنامة" بأنها "مرئيات المعارضة" بالإطلاق العام، بينما هي في الواقع مرئيات "جزء" من المعارضة الفعلية، بغض النظر عن حجم هذا الجزء أو ذاك. وهذا أمر فيه الكثير من المغالطة لقيامه على إلغاء الآخر والتفرد بالرأي والقرار. فلا يصح التصريح مثلا بكون الشيخ المحفوظ زعيماً دون الاعتراف بالكيان الذي يمثله، وكذلك هي الحال بالنسبة لزعيمي تيار الوفاء (الأستاذ عبدالوهاب حسين) وحركة حق (الأستاذ حسن مشيمع)، وغيرهم الكثير.

ثالثا: صياغة مجموعة من المطالب المتوافق عليها في قالب وثيقة أو ما شابه ذلك مع عدم التعرض لا من قريب أو بعيد للمطالب المختلف عليها، لا يعطي للطرف المتبني للوثيقة الحق في إلصاق تسمية "المطالب الشعبية" بها، ذلك أنها تمثل جزءاً من المطالب -وإن كان موضع توافق- لا "كل" المطالب. وكما هي الحال في ما سبق، فإن الإطلاق في التسمية تعميمٌ غير لائق يقوم على أساس إلغاء الآخر.


ما نشهده اليوم في خطاب التحالف الخماسي (تحالف الجمعيات الموقعة على وثيقة المنامة) من مؤشر على المضي في الحوار دون الاكتراث برأي الشارع، ومن ثم استفتاء الشعب على ما يصل إليه المتحاورون، بحجة أن القرار للشعب، يثير العديد من التساؤلات، أبرزها:

السؤال الأول: ما هي الصفة التمثيلية للطرف المحاور في الإنابة عن الجميع في الحوار؟
فالتحالف الخماسي كما ذكرنا يمثل جزءاً من المعارضة لا كلها، وهذا يعني أنه في هذا الحوار لا يمثل غير مرئياته وليس "المطالب الشعبية". وهذا يقتضي بالضرورة أن تكون نتائج الحوار ملزمة للبعض لا للكل.
وحيث أن قرار الدخول في الحوار يرتبط بأمر مصيري، فإنه ليس من حق الجمعيات التفرد به، ذلك أنه لا ريب سيأخذ الأحداث في منحى آخر، يشكل منعطفاً خطيراً في الساحة، حيث سيتحول الصراع ما بين النظام كطرف والشعب كطرف مقابل، إلى صراع بين النظام والتحالف الخماسي كطرف (باعتبار ما سيطرح لاستفتاء الشعب هو مخرجات الحوار المتوافق عليها بين المتحاورين) وبقية المعارضة بكافة أشكالها كطرف مقابل.

السؤال الثاني: متى يكون الاستفتاء؟
الطرح الذي يتبناه التحالف الخماسي هو التحاور ثم الاستفتاء. وحيث أن الطرف المعارض للحوار يرى رفض الحوار من حيث المبدأ لبطلانه، فإن الاستفتاء على ما تم التوصل إليه من نتائج إنما يصب في إطار "فرض الأمر الواقع" لا غير. والصحيح أن يكون الاستفتاء قبل الحوار لا بعده، وأن يكون موضوع الاستفتاء حول الدخول في الحوار من عدمه، لا حول ما يفضي إليه من نتائج. فإذا ما جاءت نتائج هذا الاستفتاء بالدخول في الحوار، وجب الانتقال لمرحلة من يمثل الشعب في هذا الحوار، إذ لا يجوز للبعض أن يحاور باسم الكل. كما وجب تبعاً لذلك، عرض نتائج الحوار للاستفتاء الشعبي ليكون الشعب هو صاحب القرار، باعتبار أن المحاورين هم ممثلين عن الشعب لا بديلا عنه.

السؤال الثالث: ماذا سيكون موقف الجمعيات لو أن نتائج الاستفتاء الذي تطرحه (أي استفتاء ما بعد الحوار وفق الشكل الذي يطرحه التحالف الخماسي) جاءت برفض مقررات الحوار؟
وهذا سؤال في غاية الأهمية ينبغي التوقف عنده كثيراً والتأمل فيه عميقاً. نعم ماذا سيكون موقف الجمعيات إذا رفض الشعب نتائج حوارها مع النظام؟ هل ستقف مع النظام ضد الإرادة الشعبية باعتبار توافقها مع النظام على ما تم التوصل إليه؟ أم أنها ستتنصل من تلك النتائج وتقف في صف الإرادة الشعبية ضد ما وافقت عليه بالأساس؟ فإن كان التنصل هو الخيار، ألن يدخلها ذلك في حرج سياسي أمام الرأي العام العالمي وفي الأوساط السياسية ويفقدها مصداقيتها؟ والأهم من ذلك، ألا يعتبر الزمن الذي أمضته في الحوار والجهد الذي وضعته فيه هدراً للوقت والجهد لا طائل منه، وتأخيراً لإنفاذ الإرادة الشعبية؟


إن النظام في الوقت الراهن يعيش في أزمة حقيقية جراء التزامه الخيار القمعي عوضاً عن الامتثال للمطالب الجماهيرية التي كان سقفها أقل بكثير من السقف الحالي المتمثل في إسقاط النظام. لذلك، فإنه يُعتبر المستفيد الأول والأخير من أي حوار تكون (المعارضة) طرفاً فيه، ولو لكسب الوقت لإتاحة الفرصة أمام آلته الإعلامية التي امتدت لتشمل توظيف شركات العلاقات العامة الدولية لتجميل صورته والتي تعمل بشيء من الفعالية فيما لا يخدمها عامل الوقت. لذا، نجد حالة من المغازلة السياسية والتغاضي عن المتبنين لمبدأ التحاور، فيما تتحدث آلة البطش والقمع مع الطرف الآخر. وخير ما يُستدل به في ذلك ما تعرض له أمين عام التجمع الوطني القومي الوحدوي فاضل عباس مؤخراً من مضايقات رسمية شملت ولم تقف عند إيقافه عن العمل بعد أن أعلن موقفه الرافض للحوار وفق طرح الجمعيات وإصراره على عدم تجاهل الإرادة الشعبية، بعد أن كان جزءاً من التحالف يغض النظام الطرف عن تصريحاته.

تأسيساً على ما مر، فإنه لا يمكن اعتبار الحوار مع النظام إلا طوق نجاة كما كانت الحال في ما سبق من خطوات تفردت فيها الجمعيات السياسية بالقرار.

الأحد، 12 فبراير 2012

ألم يحن الوقت لنا لدعم الثورة في البحرين؟

السيد مهدي المدرسي*
ترجمة: مجموعة صوت الثورة - البحرين

مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى للانتفاضة البحرانية، فقد حان الوقت بالنسبة للغرب لإعادة تقييم دعمه للنظام

من مآثر المنقول الروائي عند العرب (من كلمات الصديقة الطاهرة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء كريمة سيد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وآله الطاهرين): "لعمري لقد لقحت، ريثما تنتج ثم احتلبوا ملئ القعب دما عبيطا"، وهو قول إنما يشير إلى نتائج (كارثية في العادة) تلوح في الأفق ولا مفر منها. فعلى مدى الأشهر الاثني عشر المنصرمة، حاول النظام الملكي الحاكم في البحرين إجهاض حمل كان قد بدأ في خضم الربيع العربي، لكن الجنين أثبت نضجه وتكامله، فكان عصياً على الإجهاض، ذلك أن الانتفاضة الشعبية التي شهدتها البلاد في الرابع عشر من فبراير 2011، إنما تفجرت نتيجة عقود من الاضطهاد وسوء المعاملة.

لم يكن من الوارد أو المأمول، أن يدوم نظام حكم يعود إلى القرون الوسطى في هذه الجزيرة الصغيرة إلى الأبد، غير أن المنهجية  القمعية لهذا النظام تجاه ما يعلنه الشعب من ظلامة وما يجأر به من شكاوى قد وفرت الضمانة الكافية لتسارع سقوط حكم العائلة الخليفية الذي امتد على مدى 230 عاماً. فبعد مرور عام على اندلاع هذه الانتفاضة، والتي كانت انطلاقتها بُعيد الانتفاضة المصرية، ورغم القمع الوحشي الذي مارسه النظام، فإنه ما من تشخيص لحال النظام سوى أنها أكثر قتامة من أي وقت مضى.

فعلى الرغم من مضي ثلاثة أشهر على صدور تقرير اللجنة المستقلة للتحقيق، والتي انتهت لتأكيد وجود سياسة منهجية للتعذيب، وسوء المعاملة، والتمييز على أساس الانتماء المذهبي، فشل نظام الملك حمد بن عيسى آل خليفة في تنفيذ إصلاحات ملموسة على أرض الواقع ترضي المعارضة. كما أن الانتهاكات القمعية الموثقة للحكومة من جهة، واليأس من النظام من الجهة الأخرى، قد أسهما في تصاعد وتيرة الاحتجاجات والتي أدت إلى فقدان شبه كامل للسيطرة على عدة مناطق رئيسية في هذه المملكة الخليجية الصغيرة. بلدات مثل بني جمرة (واحدة من أسخن المناطق المناهضة للنظام في البلاد) تقع تماماً خارج سيطرة النظام مع حلول الظلام. وكذلك هي سترة، إحدى الضواحي الرئيسية في البلاد، والتي أطلق عليها اسم "عاصمة الثورة"، نطاق جغرافي محرم على أزلام الحكومة.

بيد أننا عندما نراجع الخطاب الدبلوماسي هنا في الغرب، فإننا نجد حالة من التباين والازدواجية الواضحة. ففي الأسبوع الماضي فقط، كانت هناك دعوات جديدة من سياسيين أمريكيين لتسليح الثوار (مع تحفظنا) في سوريا، بينما دأبت الحكومة الأمريكية على الإصرار في رفض أي عنف في الشارع من المتظاهرين ضد النظام البحريني. هذه الإزدواجية في المعايير، رغم أن سجل الإدارة الأمريكية مليء بها، تدعو بالفعل لحالة من الذهول والاستغراب.

لقد اتسمت المظاهرات ضد الحكومة البحرينية قبل الحملة القمعية للنظام في فبراير ومارس 2011، بخاصيتين فريدتين: المشاركة الحاشدة والتي تجاوزت في إحدى التظاهرات ثلاثمائة ألف متظاهر جابوا أرجاء العاصمة وهو ما يعادل ربع عدد السكان، والحالة السلمية التي خرج بها المتظاهرون الذين لم يكونوا يحملون سوى علمهم الوطني والورود التي كانوا يقدمونها لضباط الشرطة.

منذ ذلك الحين، وقعت العديد من الأحداث، فعنف النظام الشرس ضد المتظاهرين المسالمين قد غير قواعد اللعبة. فبدل التظاهرات الحاشدة، تولدت خلايا صغيرة للمقاومة، باتت تعرف بـ"الكتائب" رغم أنها لا تحمل سوى العصي وتلبس الأكفان في إعلان صريح للاستعداد للموت. وبدل الورود التي كانت تُهدى لرجال الشرطة، أخذت قنابل المولوتوف الحارقة التي تتقاذف على سيارات الأمن التي تغزو القرى الشيعية بهدف إخراجها تسود المشهد. وهل من غريب في أن يعمد المتظاهرون للرد بالمثل بعد استخدام رجال الأمن قنابل المولوتوف الحارقة ضد المتظاهرين العزل؟! فمع وجود أكثر من 40 رجل دين معتقل، واستمرار الاعتداءات المتكررة على النساء المشاركات في الاحتجاجات السلمية أمام الملأ، فإن عامة الناس إنما يشعرون بوجوب الدفاع.

كمٌ هائلٌ من مقاطع الفيديو والصور المنشورة على مواقع الشبكات الاجتماعية، تظهر ما يواجهه المتظاهرون العزل في البحرين من أعمال قمع وحشي واعتداءات سافرة وقتل وسوء معاملة برعاية رسمية من الدولة. وما أن يتم تفريق التظاهرات باستخدام العنف المفرط، حتى يتم اعتقال المئات من الناس وتعريضهم للتعذيب، بل وللاعتداءات والتحرشات الجنسية. حملةٌ للترهيب شملت هدم العشرات من دور العبادة الشيعية المرخصة، منع الشعائر الدينية، اعتقال الآلاف من الناس، قتل حوالي 60 مواطناً خارج نطاق القضاء، وحبس الأطباء لعلاجهم المصابين من المتظاهرين، لم تترك سوى سيناريوهين اثنين، كل منهما في غاية الصعوبة: السيناريو الأول يتمثل في تراجع النظام والإفراج عن قادة المعارضة بمن فيهم أمين عام جمعية أمل، وهي جمعية سياسية مرخصة، الأمر الذي يعني تجرُّؤ المتظاهرين أكثر والمضي في ما كانوا قد بدؤوه قبل عام، فيما يدور السيناريو الثاني حول استمرار النظام في قمعه الوحشي، ما يعني بالضرورة استمرار المقاومة أيضاً.. فملك البحرين أشبه بمن وضع رجله على لغم أرضي، إن تراجع مزقه اللغم إرباً، لكن في المقابل لا يُعتبر الاستمرار في الدوس على اللغم خياراً قابلاً للتطبيق.

في خضم كل ذلك، فإن جماعات المعارضة التقليدية والتي تعرف أيضاً باسم "الجمعيات السياسية" أصبحت بعيدة على نحو متزايد مع تنامي الدعم للحركة الشبابية السرية عالية التنظيم المعروفة باسم ائتلاف 14 فبراير، التي دعت للإطاحة بالنظام الملكي وإقامة نظام حكم تمثيلي ديمقراطي. رسالة تتمتع بصدى أكبر بكثير لدى المجاميع الشبابية مقارنة بتجمعات المعارضة التقليدية التي تدعم وعود النظام بإصلاح النظام السياسي اللاديمقراطي القائم.

بالتزامن مع هذه المجريات، يتجاهل حلفاء الحكومة البحرينية في الغرب هذه الحملة من النظام، وكذلك التصعيد الناجم عنها. لقد كان من الممكن أن تحظى الولايات المتحدة الأمريكية، ذات النفوذ الكبير في المنطقة، بقلوب وعقول الغالبية من شعب البحرين لو أنها أدانت قمع النظام منذ البداية. فقد كان بإمكانها التفاوض مع النظام لإطلاق سراح المعتقلين السياسيين أو إلغاء عقود التسليح مع الأمن البحريني في المقابل. لكنها عوضاً عن ذلك، اختارت أن تقف موقف المتفرج بينما يُقتل الأبرياء من الناس ويعذبون، فيما تقدم لهم علباً من الكلام الفارغ. على الأقل هذه هي رؤية البحرينيين الذين تحدثت معهم. الأسطول الأمريكي الخامس، يقبع ساكناً في مقره، وبدل تقديم المساعدة للشعب المضطهد، يظل النظام الاستبدادي هو المستفيد من المساعدات الفنية والتخطيطية الأمريكية.

هذا خطأ استراتيجي. تخيل العواقب لو أن القوى الغربية وقفت إلى جانب نظام حسني مبارك أو العقيد القذافي حتى النهاية!! ولكن هذا هو بالضبط ما تقوم به حكوماتنا في ما يتعلق بالبحرين: تجاهل الحقائق على أرض الواقع. والواقع الواضح هو أن هذا النظام متعلق بخيط رفيع. ولولا الدعم العسكري السعودي والدعم السياسي الغربي، لكان نظام العائلة الخليفية غير المنتخبة قد انهار منذ زمن طويل.

سواء قرر زعماء الغرب خفض خسائرهم أو الإبقاء الاصناعي على حياة النظام البحريني في الوقت الراهن، فإن أسوأ ما يمكن أن يقوموا به هو دفن رؤوسهم في الرمل والعيش على أمل أن تجري الأمور على ما يرام. إنه لمن الحماقة حقاً المراهنة على نظام ملكي فقد الثقة والاحترام والتأييد من رعاياه، فذلك لن يزيد إلا من نفور الناس الذين لن ينسوا يوماً أن الغرب قد تخلى عنهم في وقت حاجتهم له. الحقيقية هي أن هذه الناقة لن تكون هي ذاتها بعد معاناة ألم المخاض. ورغم أن العديد يرغبون في التخلص من ذلك الجنين، إلا أن الأوان قد فات على أي عملية إجهاض.

_________________________
السيد مهدي المدرسي، عالم دين، والرئيس التنفيذي لشبكة تلفزيون أهل البيت.
تمت الترجمة والنشر بناء على إذن مباشر من الكاتب.