الجمعة، 20 يوليو 2012

هدم المساجد وسيلة لضرب الثورات وتكريس الاستبداد

د. سعيد الشهابي
كاتب بحراني معارض - لندن


اذا كان التحريض الاعلامي والاستهداف الامني والاقصاء والتهميش والتمييز من اهم وسائل استهداف المجموعات الدينية او السياسية التي تمارسها بعض الانظمة في المنطقة فان تعمق التوجه لتدمير المنشآت الدينية اصبح ظاهرة خطيرة بعد ان تكررت في بلدان عربية واسلامية شتى. هذه الظاهرة تؤكد ليس غياب القيم الاخلاقية والانسانية والدينية فحسب، بل تشير الى إصرار على استمرار التوتر الاجتماعي وفق نمط يهدف لاضعاف الصف وتمزيق الامة وفق خطوط العرقيات والمذاهب والاديان. فالاسلام يحترم دور العبادة، أيا كانت ديانات اصحابها، واعتبر في آيات قرآنية ان حالة التوازن الانساني في المجتمعات تؤدي الى الحفاظ على دور العبادة (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض، لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا). ويتحدث المفسرون هنا عن 'قانون التدافع' بين الناس، اي التسابق لتحقيق التوازن المؤدي الى الاستقرار، وبذلك تصان دور العبادة. ونظرا لارتباط الشعوب والامم بالحالة الدينية كونها تتصل بمشاعر البشر وقلوبهم وضمائرهم ووجدانهم، فان التعرض لدور العبادة يؤدي الى حالة التوتر والاقتتال التي لا تقرها الآية المذكورة.

وقد وجد اعداء الثورة والتغيير في التعرض للمقدسات وسائل فاعلة لمنع التلاحم المجتمعي والوئام النفسي والسياسي، فحركوا العناصر المستعدة، بسبب تنشئتها الدينية، لممارسة ذلك الدور الذي يؤدي الى سفك الدماء على اوسع نطاق. فحرق مسجد او تدمير كنيسة او التعرض لكتاب مقدس بالاساءة المتعمدة، عود ثقاب يشعل النار في اجواء قابلة للاشتعال بسبب الخلافات والاختلافات، الحقيقية او المصطنعة. وكان حرق المسجد الاقصى في 1969 على ايدي الصهاينة جريمة اثارت غضب المسلمين في العالم، وجسدت خطر استمرار الاحتلال الصهيوني لفلسطين، كما ان استمرار الحفر تحت المسجد مقدمة لهدمه، الامر الذي يتغافل عنه الحكام العرب والمسلمون. وعلى صعيد الثورة فان إحداث حالة شقاق بين مواطني اي مجتمع يحول دون تحقيق موقف اجتماعي داعم للثورة، ويضعف حماس المواطنين لمواجهة الاستبداد والقمع والديكتاتورية. ولذلك ستظل الانظمة التي قامت بعد الثورات في بلدان مثل تونس ومصر وليبيا، مستهدفة بشكل خاص من القوى التي تخطط لتوجيهها سياسيا وايديولوجيا خصوصا من قبل تحالف قوى الثورة المضادة.

في خريف 1978 عمد جهاز الاستخبارات الايراني، سافاك، في عهد الشاه، لاحراق سينما 'ريكس' في مدينة عبادان، وكانت مكتظة باكثر من 400 شخص يشاهدون عرضا سينمائيا، بعد احكام غلق ابوابها. كانت الجريمة تهدف لاثارة الشعب ضد الثورة، باظهار الثورة التي يقودها العلماء رجعية ومتخلفة وانها ضد السينما والمظاهر الحديثة. غير ان سرعة قيادات الثورة لكشف هوية الجهة التي خططت للعملية ونفذتها، افشل مخطط اجهاض الثورة. ولكن السينما شيء ودور العبادة شيء آخر. ولذلك اصبح استهداف تلك الدور ممارسة تكررت كثيرا في العقد الاخير. وعندما استهدفت جماعة طالبان في العام تمثال بوذا بمدينة باميان، ونسفته كاملا ارتفعت ضجة ضد ذلك الفعل، واصبح رمزا لغياب روح التحمل الديني، واعتبر مؤشرا لانتشار ظاهرة استهداف البشر في معتقداتهم باساليب تثير الغضب ومن شأنها تأجيج الفتن الدينية والمذهبية. هذه التصرفات تحمل دلالات كثيرة تثير القلق لدى المسلمين انفسهم. هذه الدلالات تتجاوز تفسير رد الفعل الآني ضدها، وتتصل بالعقلية التي يحملها مرتكبو اعمال التخريب التي تؤسس على قناعات دينية. ومن الضروري الاشارة الى موقف الخليفة الثاني، عمر بن الخطاب، برفض اداء الصلاة بكنيسة القيامة في مدينة القدس عندما دعاه بطريركها الى ذلك. فقال عمر انه اذا صلى في الكنيسة فسوف يأتي مستقبلا من يطالب بتحويلها الى مسجد لان الخليفة صلى فيها. ولذلك بقيت تلك الكنيسة قائمة حتى الآن. ولم يكن من ثقافة المسلمين على مدى قرون حضارتهم استهداف دور عبادة النصارى او اليهود، فالحضارة القوية هي القادرة على احتضان الجميع في كنفها، والابتعاد عن سياسات الاقصاء من منطلقات دينية او ثقافية او عرقية. ويقول تاريخ سقوط الاندلس ان اليهود الذين عاشوا فيها خلال الحكم الاسلامي فضلوا الانسحاب مع المسلمين لان ذلك اضمن لسلامتهم وامنهم من العيش في كنف النصارى. كما يؤكد التاريخ انهم انما استهدفوا بسبب دينهم في ظل الحضارة الغربية، وتعرضوا القرن الماضي لحرب ابادة بسبب دينهم، الامر الذي لم يحدث لهم في تاريخ الاسلام.

منذ مطلع هذا الشهر استهدفت مجموعة 'انصار الدين' مساجد تاريخية تابعة للصوفيين بمدينة تمبكتو، عاصمة مالي، ودمرت عددا منها. ففي الأول والثاني من يوليو، قام مسلحو حركة 'أنصار الدين' الذين يسيطرون على المدينة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، بهدم سبعة أضرحة من أصل 16 في تمبكتو وحطموا 'الباب المقدس' لجامع سيدي يحيي، ما أثار استنكارا في داخل مالي وخارجها. ودعت المغرب الى تدخل دولي لحماية المساجد في مالي من التدمير معتبرة ان ذلك تراث انساني يجب الحفاظ عليه. وقال ساندا ولد بامانا، المتحدث باسم 'أنصار الدين' لهيئة الاذاعة البريطانية إن الحركة قد أكملت الآن نحو تسعين في المئة من هدفها الرامي إلى تحطيم جميع الأضرحة التي 'لا تتماشى مع أحكام الشريعة'. وأوضح أن الشريعة لا تسمح ببناء قبور يتجاوز ارتفاعها عن الأرض 15 سنتيمترا. وقبل اسبوع دمرت ميليشيات جماعة 'أنصار الدين' ضريحين في مسجد دجينغاريبر في تمبكتو بعد ان أطلقوا النار في الهواء لإبعاد الحشود وتخويفهم، مستخدمين مجارف ومعاول لاكمال الهدم. وأفاد موقع اليونيسكو على الإنترنت أن تمبكتو تضم 16 مقبرة وضريحا، تعد من المكونات الأساسية للنظام الديني، حيث إنها، بحسب المعتقدات الشعبية، كانت حصنا يحمي المدينة من كل المخاطر'. وقد لقبت المدينة التي أسستها قبائل من الطوارق في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين 'بمدينة الأولياء الـ333'، وكانت مركزا ثقافيا إسلاميا، ومدينة تجارية مزدهرة تعبرها القوافل التجارية.

جاء ذلك في الوقت الذي صدرت فيه دعوة للرئيس المصري المنتخب، محمد مرسي، لهدم الاهرامات. فقد نقل عن الدكتور عبد اللطيف المحمود، شيخ مشايخ السنة البحريني، ورئيس تجمع الوحدة الوطنية تصريح في اعقاب الاعلان عن فوز محمد مرسي بالرئاسه ( لم يمكن التأكد منه) قال فيه، 'الحمد لله الذي نصر جنده وهزم الاحزاب وحده، مبروك عليك يا مصر، ان لك هدم الانصاب الاهرام وتماثيل الكفر، وتنجزين ما لم ينجزه الصحابي عمرو بن العاص'. ولم ينقل عن الشيخ المحمود نفي لذلك برغم تداوله في وسائل الاعلام المصرية والامريكية من بينها مجلة 'فرونت بيدج' الامريكيه، المعروفة بتوجهاتها اليمنية المتشددة. وفي العام الماضي قام السلفيون المصرين بالاعتداء على خمسة اضرحة بمدينة قليوب وهدمها بدعوى انها 'حرام شرعا' في ما عرف لاحقا بـ 'غزوة الاضرحة'. واعقب ذلك قيام عد من شباب المدينة باطلاق حملة لترميم الاضرحة التي تم هدمها. كما هدم ضريح 'سعد الدين الأرزقي' بالورديان بمحافظة الإسكندرية من قبل بعض أعضاء الجماعة السلفية. وقال الشيخ جابر قاسم، وكيل مشيخة الطرق الصوفية، إن نحو 14 ضريحا تعرضت لاعتداءات بعد ثورة يناير، بخلاف أضرحة الشهداء ويقدر عددها بـ 40 ضريحا بالمنوفية. وفي مقابل ذلك طالب شيخ الازهر، الدكتور احمد الطيب، الأزهريين بالنزول إلى الجوامع بل والمقاهي ليعرفوا الناس حرمة هدم الأضرحة والتعريف بسماحة الإسلام ووسطيته، مؤكداً 'أن الدعوات التى صدرت من البعض بهدم الأضرحة، إنما صدرت من أصحاب مذاهب وأفكار دموية ولو تركت سيكون الدم في الشوارع'. وطالبهم بـ 'مقاومة ذلك الفكر بكل قوة'. وأضاف شيخ الأزهر: 'أن من يحرمون الصلاة فى المساجد التي يوجد بها أضرحة هم أصحاب فكر فاسد ولا يقاوم إلا بالفكر، مؤكداً: 'أن الصلاة فى مساجد أولياء الله الصالحين التي يوجد بها أضرحة ليست باطلة وإلا كانت الصلاة فى المسجد النبوى باطلة ولأبطلت صلواتهم أيضاً والمسلمين منذ 1400 عام'. وأضاف الطيب: 'أن هؤلاء على استعداد أن يتصالحوا مع نتانياهو ولا يتصالحون مع السيد البدوي رضى الله عنه، فهؤلاء خارجون عن إجماع المسلمين'.

وفي شهر ابريل الماضي اطلقت وزارة الشؤون الدينية في تونس عملية جرد لأوضاع مساجد البلاد التي بات عدد منها تحت سيطرة متطرفين او تركت لتتدهور منذ الثورة. وقال وزير الشؤون الدينية التونسي نور الدين الخادمي ان حوالى 400 مسجد باتت تحت سيطرة السلفيين من اصل حوالى 5000 في البلاد، علما انه امام مسجد الفاتح في تونس الذي كثيرا ما تنطلق منه تظاهرات ينظمها سلفيون.

ولم تسلم ليبيا من هجمة استهداف المساجد. ففي شهر اكتوبر 2011 أقدم العشرات من المقاتلين السلفيين على تفجير وتدمير بعض المساجد التي يتواجد بها قبور وأضرحة علماء المذهب المالكي، الذين عاشوا في ليبيا خلال القرن السادس والسابع الهجريين. فقد دمر مسجد سيدي رمضان بمدينة العزيزية التي تبعد 25 كليومترا عن طرابلس بدعوى ان المسجد به قبر احد اولياء الله الصالحين، وذلك شرك بالله. وفي العاصمة طرابلس، دمر السلفيون مسجد العالم المالكي سيدي حامد. وفي مدينة جنزور تم تدمير مسجد سيدي سالم الذي يتواجد به ضريحه منذ اكثر من 600 سنة، وكانت وفود الطلبة وعلماء الصوفية تتوافد على المسجد المذكور، لأخذ علوم الشريعة على مذهب الإمام مالك وعقيدة الأشعري. وفي سوريا استهدف الشهر الماضي مسجد السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب بمحاولة تفجير كبيرة، اكتشفت مبكرا.

هذه الاعمال لا يمكن فصلها عن سياقاتها التاريخية المعاصرة. ففي 3 ديسمبر 1925 نشرت صحيفة 'الكون' المصرية على صفحتها الاولى عنوانا يقول: آل سعود يدمرون أضرحة الصحابة'، وتحته صور مواقع مهدمة لمساجد اقيمت على قبور آل بيت رسول الله وصحابته. وخلال التسعين عاما الماضية تم القضاء على حوالي 90 بالمائة من التراث الاسلامي بمنطقة الحجاز منها البيت الذي ولد فيه رسول الله بـ 'شعب الهواشم' وبيت السيدة خديجة، وبيت أبي بكر بمحلة 'المسفلة' بمكة، والبيت الذي ولدت فيه السيدة فاطمة بنت محمد بزقاق الحجر في مكة، وبيت حمزة بن عبد المطلب، وبيت الارقم الذي كان النبي محمد يجتمع فيه سرا، وهدموا قبور الشهداء بمقبرة المعلى، وقبور الشهداء في بدر، ومكان العريش الذي نصب للنبي وهو يقود معركة الفقراء، وهدموا قبور البقيع الغرقد حيث يرقد المهاجرون وانصار رسول الله وأهل بيته،

وهكذا يتضح ان استهداف المساجد من قبل المجموعات السلفية المرتبطة بالمذهب الوهابي ليست جديدة، بل لها امتدادات تاريخية ومصاديق معاصرة. وليس جديدا القول بان هدم قبة العسكريين في مدينة سامراء العراقية في فبراير 2006 كان يهدف لاثارة فتنة طائفية تحرف مسار مقاومة الاحتلال الامريكي. فمن يستهدف الاحتلال لا يفتح جبهات محلية اخرى تشغله عن الهدف الاساسي. وقد ادت تلك الحادثة لمواجهات دموية ودشنت مرحلة اكثر دموية مما سبقها، ولكنها ادت في النهاية الى ضعف المجموعات التي حرفت مسار مقاومة الاحتلال وصنعت اهدافا وهمية غير قابلة للتحقق.

وفي هذا السياق تجدر الاشارة الى سياسة هدم المساجد التي صاحبت اجتياح القوات السعودية للبحرين في منتصف شهر مارس 2011. ففي غضون بضعة اسابيع من ذلك تم تدمير 53 منشأة دينية من بينها اكثر من 35 مسجدا، حسب ما جاء في تقرير لجنة التحقيق المستقلة التي شكلها الحاكم وقامت بتمويلها.

هذه المساجد ليس لها قيمة امنية، ولم تهدم لانها، مثلا، مخابئ للثوار او الاسلحة، بل لان القائمين عليها ينتمون لمذهب ديني لا يتوافق مع المذهب الوهابي الحاكم في السعودية. وعندما يتم استخدام المساجد سلاحا في المعارك السياسية فان ذلك يمثل ابشع ما يمكن ان يتمخض عن العقل البشري من اجرام غير محدود. وعندما تضفى على الجريمة قيمة دينية او تعرض للعالم انها 'تكليف شرعي' تتضاعف الجريمة، لان ذلك ينال من مصداقية الدين ويجعله اداة بايدي السياسيين، وطريقا غير مقدس لتسجيل المواقف والنقاط السياسية. وليس هناك دين يامر اهله باستهداف دور عبادة الآخرين، ايا كان دينهم، لان ذلك الاستهداف يطفىء بريق الدين في النفوس ويحوله الى اداة قمع يساء استخدامها من قبل الانتهازيين. ان ظاهرة استهداف المساجد واحدة من اساليب عمل قوى الثورة المضادة لاجهاضها عبر تشطير المجتمع وفق محاور الاختلاف الديني، انطلقت من مدرسة فقهية واحدة واصبحت وسيلة يستعملها النظام الذي يحتضن تلك المدرسة لتحقيق اهداف سياسية في مقدمتها وقف عجلة التغيير في المنطقة وكسر عزائم الثوار. ومواجهة هذه المظاهرة تبدأ باستيعابها بوضوح ليمكن افشالها، فاثارة الفتنة الدينية الخطيرة تبدا باستهداف دور العبادة وهدمها. انها حرب ضد الثورة والدين والتراث والحضارة والآثار التي تروي قصة الانسان ومسيرة التغيير، فالحذر من الوقوع في تلك الفتنة.