صوت الثورة
هكذا
فجأة، ودون مقدمات، في صبيحة يومٍ هو كسائر الأيام التي يعيشها أهل
البحرين يصبحون على آثار الغاز الخانق في الهواء وبقايا طلقات القنابل
الصوتية وقنابل الغاز في الأزقة والشوارع ووسط البيوت والأفنية، بعد أن نام
معظمهم على نغمات تلك القنابل وتحصنوا قدر المستطاع ضد تلك الغازات
الخانقة، فيما تظل عيون بعض الشباب ساهرة ترقب أي لحظة غدر تبدر من مرتزقة
نظام ديدنه القتل ومحاربة الله.. صبيحة ما زاد عليها إلا فاجعة فقدان
البحرين لست زهرات في مقتبل العمر إثر حادث مفجع أليم.. ظهر الدجال ليقدم
التعازي لأسر الراحلات.. زيارة وصفها وزير العمل السابق الدكتور مجيد
العلوي بالقول أنها: "زيارة عفوية، وانطباعاتها إيجابية".
ردود
الفعل حول هذه الزيارة تفاوتت بشكل كبير، فبينما رحب بها البعض معتبراً
إياها خطوة إيجابية، اعتبرها البعض الآخر مقدمة لأمر ما.. وفيما ذهب جمع من
الناس للقول بأنها لا تعدو كونها واجب إنساني ولا شأن لها بالمجريات
السياسية، رأى آخرون أنها محاولة لتلميع الصورة.. مجموعة أخرى لم تتحدث عن
خلفيات هذه الزيارة بل ركزت على نتائجها، فرأت أنها إثبات صريح على بطلان
ادعاءات النظام الخليفي الحاكم التي تصور الشيعة في القرى بأنهم مجموعة من
المتطرفين والهمج الذين يحملون أو يخفون الأسلحة ويعتدون على الآمنين.. أما
دعاة "إصلاح النظام" فقد رأوا في هذه الزيارة بداية انفراج في ما يسمونه
بـ"الأزمة السياسية".. ووسط كل تلك التحليلات والتأويلات، كان الملفت للنظر
أن الإعلام الرسمي من صحافة وتلفزيون وإذاعة قد تجاهل تلك الزيارة بصورة
كاملة، وكأن شيئاً لم يكن، رغم تخصيص الصفحات الأولى من الصحف والنصف ساعة
الأولى من نشرات الأخبار لتغطية أهم أخبار البلاد والمتمثلة في زار وودع
واستقبل وهنأ وأشاد وشكر..
الالتفاتة الثانية تتمثل في فريق
الزيارة (العفوية)، والذي ضم إلى جانب سلمان بن حمد الملقب بـ"رجل الإصلاح"
حتى في ما قبل الثورة البحرانية، كلا من وزير العمل السابق مجيد العلوي
المحسوب على تيار حمد بن عيسى إبان وجوده في منصبه الوزاري وأحد متبني
نظرية "الإصلاح من الداخل"، وأمين عام جمعية الوفاق الوطني الإسلامية وصاحب
نظرية "إصلاح النظام" في جزء من تلك الزيارة.. ورب (صدفة) خيرٌ من ألف
ميعاد..
الزيارة انتهت.. لكن الجدل لا يزال قائماً بين
العامة حول أسبابها وحيثياتها ونتائجها.. فيما يواصل مريدو "الإصلاح"
معزوفتهم الجديدة حول بوادر الانفراج واقتراب الحل السياسي والشخصية
الإصلاحية المعتدلة لسلمان بن حمد (المغلوب على أمره).. كما يرون لا كما
نرى..
لم نكن لنقرأ مستجدات الساحة بالقراءة التي نستعرضها
في هذه الورقة لو أن الإدارة الأمريكية لا زالت تحرك الدمى من خلف المسرح
كما كانت منذ انطلاقة الثورة المباركة، فقد أضحت اليوم جزءً من المشهد، ظهر
أول ما ظهر في دور الناصح، ثم ما لبث أن تحول لدور الراعي.. فيا شقاء
قطيعٍ جاء راعيه من البيت الأبيض..
سلمان بن حمد.. بين الإصلاح والدجل..
قبل
اندلاع الثورة المجيدة في الرابع عشر من فبراير 2011، كان سلمان بن حمد
ينأى بنفسه عن الخوض في الملفات السياسية، لاسيما وأنه تسلم ولاية العهد في
خضم أزمة ملفات سياسية بالغة التعقيد لا يراد لها أن تُحل لأن حلها إنما
يعني تطبيق الإصلاح الحقيقي الذي توافقت عليه قوى المعارضة والنظام الخليفي
بعد تسلم حمد بن عيسى مقاليد الحكم في البلاد، والذي كان من المفترض أن
يبدأ بتحويل نظام الحكم في البحرين من الإمارة المطلقة إلى مملكة دستورية
تعمل وفق النهج الديمقراطي على غرار الديمقراطيات العريقة، وهو التعبير
الذي أطلقه حمد بن عيسى آنذاك.. لكن هذا التحول جرى بصورة مشوهة، فتحولت
البحرين من إمارة مطلقة إلى مملكة مطلقة، ليبدأ الصراع مجدداً ولكن في قالب
مختلف بعض الشيء عما كان عليه في العقود السابقة، وتحديداً في التسعينات..
كان
خيار سلمان بن حمد هو التركيز على الملف الاقتصادي، والذي شمل مثلث
(الإصلاح) القائم على (إصلاح) الاقتصاد، (إصلاح) سوق العمل، و(إصلاح)
التعليم.. قرارٌ لا يقوم على السذاجة أو قلة الخبرة، وإنما على الدهاء..
فبينما تستقر الأمور السياسية عبر الزمن سواء بحلحلة تلك الملفات ومعالجتها
أو بإحكام السيطرة عليها بما لا يدع للمعارضة مجالاً لاستنهاض قواعدها
الشعبية مجدداً، يكون هو قد فرغ من بناء أذرع الأخطبوط الاقتصادي وأحكم
السيطرة عليها تمهيداً لمواجهة الأخطبوط الأمني الذي يحركه ويسيطر عليه
عميد رؤساء الحكومات في العالم خليفة بن سلمان، مستنداً في تلك المواجهة
على القاعدة الشعبية التي لا يوجد ما يمنع اصطفافها إلى جانبه وهو الذي لم
تتلوث يداه بأي ملف سياسي أو حقوقي قبالة ديكتاتور لم يفارق كرسي الحكم منذ
استقلال البحرين في العام 1971. وما تشكيل مجلس مجلس اقتصادي يضم أكثر من
ثلث الوزراء تحت عباءته ليوازي مجلس الوزراء تحت عباءة رئيس الوزراء إلا
خطوة في هذا الاتجاه..
(وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا
مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)، (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا
صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا
يُنصَرُونَ).. ريح كعادتها، جرت بما لا تشتهي السفن، في الرابع عشر من
فبراير 2011، لم تترك المجال لسلمان بن حمد سوى الخوض في ما كان يفر منه..
فبرز ليمسك بالملف السياسي، وبرز معه الوجه الذي كان يخفيه..
بدى
سلمان في أول ظهور له بمظهر رجل الحق الذي لم ينكر وجود أخطاء (لدى
الطرفين)، كما لم ينكر (حق الناس في التظاهر والمطالبة بحقوقهم)، ولم ينكر
أيضاً أن (الحراك وطني بامتياز ولا دخل لإيران به).. عبارات رحب بها جهابذة
السذاجة السياسية، دون أن يلتفتوا لما كان ينطوي في ثناياها من غرس بذور
الشقاق الطائفي بكلمات حقٍ يراد بها باطل.. إذ لا سبيل لمواجهة حراك شعبي
وطني، بل لا مسوِّغ لمواجهة حراك كهذا، لذا كان لزاماً أن يتم حرف التحرك
من الجانب الحقوقي والطابع الوطني، إلى الجانب الطائفي بتأليب طائفة ضد
أخرى، ليتحول الصراع من صراع شعبي ضد نظام حاكم إلى صراع طائفي بين مذهبين
تحاول الدولة أن تديره بكثير من الحكمة والتعقل حفاظاً على اللحمة
الوطنية.. سمٌ في العسل.. (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ
أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ
بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ).
كان نجاح سلمان قاب قوسين
أو أدنى في الدخول في حوار هزلي هزيل ومُهين مع بعض الجمعيات السياسية
التي نصبت نفسها متحدثا باسم المعارضة جمعاء، معتمداً لعبة الشد والجذب حول
ما كان يعرف بالمحاور السبعة.. لكن الله سلّم.. فلأنها أيامٌ نحساتٍ على
النظام، غيَّر الله جل شأنه بمكره، وهو خير الماكرين، جهة ريحه الصرصر
ليُري من تجبر وطغى أنه لا مكر فوق مكر الله، فما أن أعلن سلمان قبول
الحوار متفضلاً على أصحاب الحق في ذلك، حتى تحركت آليات جيش الغزاة في
الرابع عشر من مارس 2011 نحو البلاد لتعيث في الأرض تقتيلاً وفساداً في
اليوم التالي، وليختفي (رجل الإصلاح) بصورة مفاجئة، ثم يعاود الظهور في
إبريل بعد أن فقدت البحرين ثلة من خيرة شبابها برصاص المرتزقة والمحتلين،
بخطاب يستكمل فيه التمزيق الاجتماعي بذات النبرة الوطنية الإصلاحية، قائلا
في ما قال:
"وفي مقابل ذلك تخطى الأمر كل حد، وأسيء استخدام
الحرية، وقاد المتطرفون الناس، ودفعوا بهم إلى ترهيب وترويع الآمنين وقطع
الأرزاق وسد الشوارع ورفع شعارات الانقلاب على كل شيء، ووصل الأمر إلى
القتل والجرح وتفتيت الروابط التي تجمع شعب البحرين وتمزيق نسيجه
الاجتماعي، إضافة إلى خسائر مؤلمة للإقتصاد البحريني تصل إلى مئات الملايين
حتى هذه اللحظة.
ومن المؤسف تخاذل البعض وتراخيه
وسماحه للمتطرفين ليوجهوا أبناء البحرين ويقودوهم، وما شهدناه في الفترة
الماضية بسبب التطرف لم يكن بأقل منه التراخي والتخاذل عند الحاجة إلى
الاعتدال والإقدام، لم يدرك هؤلاء أن البحرين أكبر من محاصصات الزعامة
الضيقة، وفوق كل الحسابات التجزيئية التي تتجاهل الآخر وكان ذلك نتيجة
قراءه خاطئة، للموازين السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي يقوم عليها
مجتمعنا البحريني ولوضعنا في منظومة مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وهي
المنظومة التي تربطنا كشعب خليجي واحد يجمعنا تاريخ ومصير مشترك."
قال
هذا، ثم اختفى كلياً عن الساحة.. وما كان له بعد هذه (الغيبة الصغرى) إلا
ظهوره الأخير معزياً أسر الزهرات الست التي فقدتها البلاد، في وقت تجاوز
فيه عدد الشهداء بين ظهوره الأخير وهذا الظهور الستين قتيلاً بين تعذيب في
مراكز الاعتقال وقتل بالرصاص والأسلحة البيضاء في الشوارع والبيوت وفي
المستشفيات، وخنقاً بالغاز وإغراق في البحر، وغير ذلك.. أكثر من ستين
قتيلاً بأيدي الأمن الذي يرأسه عمه، والجيش الذي يرأسه هو بشخصه، لم تظهره
من جحره ولم تحرك لديه ذلك الإحساس الذي تحرك (فجأة) ليعزي البحرين
بفقيداتها –وكلهن على قلوب شعب البحرين عزيزات كما هم الشهداء الأطهار..
ظهورٌ
يستكمل فيه مشوار الدجل لكنه في هذه المرة برعاية الكاوبوي (راعي البقر)
الأمريكي للحوار، رافقه فيه دعاة (الإصلاح)، من كان قد وصفهم في خطابه
الأخير بالاعتدال وعاتبهم فيه على تخاذلهم ما سمح للـ(متطرفين) بجر البلاد
نحو التأزيم والشقاق!! ظهورٌ كان مفاجئاً للناظرين لكنه لم يكن كذلك
للمبصرين..
شيطنة (الراعي) وسياسة الابن البديل..
سيف
الإسلام القذافي، عفواً، جمال مبارك، عذراً، سعد الحريري.. عفواً
وعذراً.. سلمان بن حمد.. اللهم اغفر لنا الزلل فقد (تشابهت قلوبهم) وليس
الاختلاف سوى في الأسماء فقط..
بدائل صنعها وطرحها راعي
البقر الأمريكي لما أدرك أنه من غير الممكن الإبقاء على الدمى المتهالكة،
غير القادرة على الصمود والبقاء أمام ثورة شعوبها، ما يستلزم الأمر وضع
لُعب جديدة، طبعاً عدا سعد الحريري الذي لم يكن إيجاده لمواجهة ثورة شعبية
قائمة، وإنما إضعاف جبهة مقاومة..
هي ذات الأصابع وذات الدمى
وذات القواعد.. ورقة رمى بها راعي البقر الأمريكي على الطاولة فاحترقت لأن
الخصم كان واعياً ومتيقظاً.. ولعله كان يدرك أنها قد تحترق، لكن طالما كان
احتمال عدم التفات الخصم لها قائماً، فإن الحظ قد يكون حليفها، ذلك أن
قواعد اللعبة تقضي رمي الأوراق جميع الأوراق بدئاً من أصغرها، فإذا خشي
اللاعب الخسارة، رمى الورقة الكبرى.. الجوكر.
أجل هو
السيناريو القادم في البحرين، بعد احتراق ورقة الكونفدرالية الخليجية التي
جاءت لتدلل على فقدان راعي البقر الأمريكي الثقة في قدرة الدمية على
البقاء، ما يستلزم ترقيعها ببقايا دمية أكبر لرتق الثقوب.. إقصاء الأب،
وتقديم الابن (رجل الإصلاح)، بمساعدة (دعاة الإصلاح) من خلال (حوار وطني)
تكون أمريكا فيه (الراعي).. وما أن تبدأ هذه الجولة من اللعبة، حتى يبدأ
مشوار التضحيات والتنازلات من قبل اللاعبين حيث الكل يهدف للظفر على خصمه..
تضحيات الراعي لن تقف إلا عند حد واحد هو التضحية بالفوز.. الوزير والحصان
والقلعة والجندي كلها تضحي من أجل بقاء الملك.. هذا في الشطرنج، أما في
اللعبة الأمريكية فإن الملك في صف الأضحيات من أجل أن يبقى اللاعب في
موقعه..
ولكي يكون الظفر بأقل الخسائر، فلابد من إقصاء
اللاعبين المصرين على الفوز في طرف الخصم، والإبقاء فقط على اللاعبين الذين
لا يهمهم المكسب بقدر ما يهمهم تواجدهم في ساحة الملعب.. وهذا لا يكون إلا
بمساعدة اللاعب الخصم على التخلص من اللاعبين الآخرين أو اللعب باسمهم،
قبل أن تبدأ الجولة التالية.. غير أنه (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ
عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ
لاَ يَشْعُرُونَ).