الثلاثاء، 6 مارس 2012

دولة مدنية أم دولة ولاية الفقيه؟

صوت الثورة

تقوم نظرية ولاية الفقيه، إحدى نظريات الحكومة الإسلامية وليست الوحيدة، على أركان أربعة رئيسية، هي: أولا: حاجة الإسلام إلى قيام الدولة من أجل تطبيق قسم كبير من أحكامه، ثانيا: أن إقامة الحكومة الإسلامية وإعداد مقدماتها ومن بينها المعارضة العلنية للظالمين تعتبر من واجبات الفقهاء العدول، وأن اتباع الناس ومساندتهم لهم هي من الأمور الواجبة، ثالثاً: أن الحكومة الإسلامية تعني ممارسة الفقهاء العدول المعينين من جانب الشارع المقدس لولايتهم في كل الجوانب الحكومية التي كانت تسري عليها ولاية النبي والإمام المعصوم، رابعا: أن الحكومة الإسلامية والقوانين الصادرة عنها تعتبر من الأحكام الأولية، وتتمتع بالأولوية والتقديم على جميع الأحكام الفرعية، وأن حفظ النظام واجب شرعي.

وكان أول فقيه بحث في تفاصيل مسألة ولاية الفقيه وجعل منها مسألة فقهية مستقلة وأقام عليها الدليل العقلي والأدلة النقلية هو الشيخ أحمد النراقي، في كتابه "عوائد الأيام" والذي أشار فيه إلى مسألة ولاية الفقيه لأول مرة بصورة يمكن اعتبارها جزءً من الفكر السياسي، حيث يجعل النراقي قضية إدارة الشؤون الدنيوية للناس من واجبات الفقهاء، كما يشير إلى ذلك عالم الدين الإيراني محسن كديور في كتابه "نظريات الحكم في الفقه الشيعي". غير أن الإمام الراحل آية الله الخميني قدس سره الشريف، يعتبر أول فقيه في التاريخ الشيعي ينجح في تأسيس دولة "ولاية الفقيه".

ولسنا هنا بصدد مناقشة نظرية ولاية الفقيه أو إبداء الرأي فيها، إنما كان إيراد هذه المقدمة اليسيرة لضرورة فهم الموضوع المطروح في هذه المقالة.

كما نشير قبل طرح الموضوع إلى أمرين مهمين استكمالاً لهذه المقدمة:
الأمر الأول، هو أنه لا علاقة لطرح هذه المقالة بموضوع الحضور في المسيرة الجماهيرية التي دعى إليها سماحة آية الله الشيخ عيسى قاسم حفظه الله، ذلك أننا أعلنا موقفنا تجاه هذه المسيرة في بيان سابق وأكدنا ترحيبنا بها ومشاركتنا فيها، بالنظر لكونها مسيرة شعبية تهدف لإظهار حجم الشارع المعارض بشقيه المطالب بالإسقاط والإصلاح، مع التأكيد على حق كل فرد في التعبير عن إرادته تأسيساً على حقه في تقرير مصيره. ومن أراد المزيد حول موقفنا هذا فبإمكانه الرجوع للبيان المذكور.

الأمر الثاني: أننا لا نتفق مع طرح الجمعيات السياسية عموماً، وجمعية الوفاق الوطني الإسلامية خصوصاً، في ما يتعلق بإمكانية إصلاح النظام، وليس في هذا الأمر سر. إلا أن ذلك لا ينبغي أن يفسَّر أو يؤوَّل بأي شكل من الأشكال أن موقفنا من هذا الطرح هو موقف موجه ضد الجمعية ككيان، أو أفرادها كشخوص، فكلهم إخوة لنا نعتز بجهودهم وتضحياتهم، ولطالما أكدنا على رفضنا لدعاوى التخوين بسبب الاختلاف في الطرح السياسي. فلكل طرف رؤيته المبنية على قناعات معينة تحصلت لديه لم تتحصل بالضرورة لدى الطرف الآخر فكانت الرؤية مختلفة، وليس في اختلاف الرؤى والمناهج ضرر بل العكس. وأياً كانت الرؤية، سواء الإسقاط أو الإصلاح، فإن ذلك لا يبرر دعاوى التخوين لأي طرف. وهذا أمر لا جدال فيه بالنسبة لنا.

ولكي تكون الصورة واضحة بالنسبة للقارئ الكريم، ولكي نتفادى الوقوع فريسة التؤيلات وتحميل النص فوق ما يحتمل أو الخوض في النوايا وبواطن الفكر- نؤطر موضوع هذا المقال بإطار "الاستفهام عن الطرح الحقيقي الذي تتبناه جمعية الوفاق الوطني الإسلامية"، وذلك بالمقارنة بين أدبيات الجمعية بما في ذلك التصريحات الإعلامية والرسمية من جهة، ومجريات الأحداث على أرض الواقع من الجهة الأخرى، والتي اتضحت بعض معالمها بصورة أكبر مؤخراً على إثر الدعوة التي وجهها سماحة آية الله الشيخ عيسى قاسم حفظه الله ورعاه.. الأمر الذي دعانا لطرح هذا الاستفهام، والذي نأمل أن نرى بشأنه توضيحاً من قبل المعنيين في الجمعية.

لطالما أكد الممثلون الرسميون للوفاق بدئاً بأمينها العام سماحة الشيخ علي سلمان، ومروراً بمتحدثيها في الداخل والخارج، وانتهاءً بجماهيرها الموقرة، أن جمعية الوفاق (واضحة) في مطلبها الرافض لإقامة دولة إسلامية في البحرين والمطالبة بإقامة دولة مدنية تحترم كافة الأديان والمذاهب والأيدولوجيات والتي تشمل الديني واللاديني. وقد رحب جمع من جماهير التيارات الليبرالية واللادينية بصدور هذه الدعوة من الوفاق باعتبارها أكبر جميعة سياسية إسلامية من جهة، وبصدورها من سماحة الأمين العام الشيخ علي سلمان باعتباره رجل دين شيعي يقود الجمعية من الجهة الأخرى. كما أدى هذا القبول من التيارات اللا إسلامية بمختلف أطيافها إلى دعم موقف الوفاق بل ودخول بعضها في تحالف معلن، رغم حفاظ الجمعية على طابعها الإسلامي حتى في هذا التحالف، وهو أمر بديهي باعتبار أن التحالف هو حالة تكاملية لا حالة إلغاء أو تخلي عن الهوية.

ومنذ انطلاق هذه التأكيدات من الوفاق، لم تخلُ الساحة المحلية أو الخارجية من طرح بعض التساؤلات حول إمكانية جمعية إسلامية تلتصق بشكل كبير بالمرجعية الدينية، وتتمتع بمساحة من الشعبية في الشارع البحراني مبنية على أساس أيدلوجيتها الدينية، أن تنتزع عباءة الدين في الشأن السياسي.. غير أن الإجابة على تلك التساؤلات كانت واحدة على الدوام وتتمثل في التأكيد وإعادة التأكيد على سعي الجمعية لإقامة دولة مدنية لا دولة "ولاية الفقيه".

بيد أن تعامل الجمعية وردة فعلها تجاه الدعوة الأخيرة من سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم حفظه الله، قد أعادت الاستفهام إلى الأذهان وبصورة أشد..

فالمطالع لنص خطبة سماحة آية الله يجد أنها قد انطوت على (دعوة) ولم تأخذ شكل أو مسمى (الفتوى). وحسب ما يفهم من نص الخطبة أن الهدف من هذه الدعوة هو "إقناع من يقنعه الحق والواقع بأنكم مع مطالبكم السياسية والحقوقية العادلة"، و"أنكم لستم الشرذمة القليلة المعزولة التي لا يُعبأ بها"، موضحاً سماحته الغرض من هذه الدعوة بما لا يدع مجالاً للتأويل في قوله: "رسالتها المقصودة في التركيز على أن المطالب السياسية والحقوقية العادلة مطالب شعب، لا شرذمة قليلة غير معتبرة، وهي رسالة من الضرورة أن تصل العالم كله، ويفهمها". وهي بذلك حسب ما طرحه سماحة الشيخ سعيد المادح في مقاله الأخير "قراءة أولية في مسيرة 9 مارس" والمنشورة على الموقع الإلكتروني الرسمي للمجلس الإسلامي العلمائي بتاريخ 6 مارس 2012 "ليست مسيرة خاصة بطرف أو طيف سياسي حتى يمكن أن يستثمرها في تثبيت سقف مطالبه، أو رؤيته الخاصة، وإنما هدفها واضح وصريح وهو باختصار: (الشعب مصر على مطالبه، والشعب ليس شرذمة قليلة)، وأما التفاصيل، فتتعدد فيها الآراء، ولكن لا يختلف أحد على فساد النظام ولزوم الإصلاح والتغيير، سواء عبر فكرة "إسقاط النظام" أم "إصلاح النظام"، فعلى كل حال، فإن من يطالب بإسقاط النظام ليس هدفه الإفساد في الأرض، وإنما هدفه الإصلاح بحسب وجهة نظره، فالجميع يطلب الإصلاح وتغيير هذا الواقع الفاسد الذي يعيشه النظام والوطن".

وعليه، فإن أي ريبة قد داخلت البعض في الغرض من دعوة سماحة آية الله الشيخ عيسى قاسم حفظه الله، أو هوية هذه المسيرة، قد أزاله المجلس الإسلامي العلمائي في المقالة المذكورة.

وكما أن الغرض من هذا الطرح ليس مناقشة نظرية ولاية الفقيه، فإنه أيضاً ليس لمناقشة المسيرة أو الغرض منها، وإنما كانت الإشارة أعلاه لبيان ماهية هذا الأمر والذي حصره سماحة آية الله قاسم وأكد عليه سماحة الشيخ المادح في مقاله المذكور أعلاه في كونه "دعوة" لا "فتوى"..

غير أن المتتبع للموقف الرسمي للجمعية على لسان متحدثيها وجمهورها يرى بجلاء تحول تلك "الدعوة" إلى "فتوى شرعية ملزمة"، بلغت لحد القول بـ"الوجوب العيني" الذي لا يترتب معه استئذان الزوجة لزوجها للمشاركة في المسيرة، ويترتب الإثم على التخلف عن حضورها..

المسيرة–كما أشرنا سالفاً- تتعلق بالتأكيد على أمرين هما فضح التضليل الإعلامي في وصف المطالبين بالحقوق السياسية بالشرذمة، والتأكيد على عدالة المطالب سواء كان ذلك بالإصلاح أو التغيير. أي أنها مسيرة سياسية بامتياز لا تجمعٍ ديني وإن كانت الدعوة لها قد صدرت عن الفقيه.. بينما جاء التعامل مع هذه "الدعوة" من الجمعية –وغيرها- على أساس الجنة والنار، والثواب والعقاب، بجعلها موضع الفتوى الملزمة.. الأمر الذي لا يعني سوى تبني جمعية الوفاق مبدأ "ولاية الفقيه"، حيث تكون إرادة الفقيه غالبةً على الرأي والحسابات السياسية باعتبارها فتوى ملزمة، في نقض صريح للتصريحات والتأكيدات السابقة والمتكررة حول رفض إقامة دولة إسلامية والإصرار على إقامة دولة مدنية.

وعليه، فإننا أمام مؤسسة واحدة بطرحين متناقضين، بكل ما تحتمل كلمة التناقض من معاني، إذ لا يستقيم مفهوم الدولة المدنية وفق التعريف السياسي القائم للدولة المدنية مع الدولة الإسلامية المبنية على نظرية ولاية الفقيه والمشار إلى مبادئها الأربعة في مقدمة هذا المقال، ما يعبر عن قيام واحدة من حالتين أو كلتاهما معاً: فإما أن تكون الجمعية غير واضحة في ما تتبناه من خط ومنهج، الأمر الذي يبعث الريبة في مدى نضج أطروحتها السياسية، أو أن تكون غير واضحة وشفافة مع جمهورها وحلفائها فتعلن منهجاً يرمي لإقامة دولة مدنية لا إسلامية وفق الأعراف السياسية القائمة، بينما تتبنى في واقع الأمر منهجاً مبنياً على نظرية ولاية الفقيه.

وختاماً نشدد التأكيد على أننا لسنا هنا بصدد تأييد أو معارضة نظرية ولاية الفقيه أو تغليب رأي الدولة المدنية على الدولة الإسلامية أو العكس، وإنما الاستفهام عن التناقض البيِّن بين الطرح والواقع، وهو استفهام كما ذكرنا آنفاً يحتاج لتبيان وإيضاح..

والله ولي التوفيق..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق