د.سعيد الشهابي
كاتب بحراني معارض - لندن
عندما
قرر الناشط الحقوقي البحراني، عبد الهادي الخواجة، ذو النيف والخمسين
عاما، بدء إضراب مفتوح عن الطعام، ربما كان من اكثر المضربين في العالم
معرفة بمعنى ذلك، نتيجة نشاطه الحقوقي على مدى اكثر من ثلاثة عقود، فقد
دافع هذا الناشط عن حقوق الانسان في كافة انحاء العالم، وحضر مؤتمرات كثيرة
في بلدان شتى، وعمل في منظمات عديدة آخرها منظمة 'فرونت لاين' للدفاع عن
نشطاء حقوق الانسان، التي تتخذ من العاصمة الايرلندية مقرا لها حتى استقال
من منصبه بعد انطلاق ثورة البحرين في 14 شباط/فبراير من العام الماضي لينضم
الى صفوفها.
وبالتالي كان قراره واعيا بمخاطر الدخول في
إضراب مفتوح ومشروط. فتحت شعار 'الحرية او الشهادة' توقف الخواجة في الثامن
من شهر شباط/فبراير الماضي عن تناول الطعام مطالبا بالافراج عنه وعن
زملائه في المجموعة القيادية التي حكم افرادها بالسجن مددا تتراوح بين خمسة
اعوام والمؤبد. وكان التقرير الذي اصدرته ما سمي 'اللجنة المستقلة لتقصي
الحقائق' التي شكلها النظام لتفادي فرض لجنة دولية مستقلة، قد احتوى على
توصيات من بينها اعادة النظر في الاحكام التي صدرت بحق المعتقلين السياسيين
خصوصا المجموعة القيادية.
واوضح احد اعضاء تلك اللجنة،
السير نايجل رودلي، بان الفريق كان يهدف من وراء تلك التوصية لاطلاق سراح
جميع المعتقلين السياسيين، وفي مقدمتهم المجموعة القيادية التي ينتمي اليها
عبد الهادي الخواجة. ويبدو ان الخواجة اعتقد ان اطلاق سراحه وبقية زملائه
مطلب سوف تتعاطف معه واشنطن ولندن، اللاعبان الاساسيان في الشأن البحراني،
وان اضرابه عن الطعام سوف يعطي دفعة لهما لاتخاذ قرار الافراج. والواضح انه
في الوقت الذي تطالب المجموعات الحقوقية الدولية ومسؤولي الامم المتحدة،
ومن بينهم بان كي مون، بذلك، فان واشنطن ولندن تصران على عدم الافراج.
وكان
ذلك واضحا من تصريحات مسؤولي البلدين. وأكد البيان الاخير الصادر عن البيت
الابيض ان واشنطن لا تسمح باطلاق سراح السجناء، بل تدعو لما اسمته 'حل
انساني'، وهو مصطلح فضفاض لا يدعو بشكل واضح للافراج عن السجناء. وتجدر
الاشارة الى ان الولايات المتحدة سبقت نظام الحكم في اتخاذ اجراءات بحق
الرموز القيادية. فقبل ثلاثة اعوام الغت السفارة الامريكية في المنامة
تأشيرات الدخول لعدد منهم من بينهم عبد الهادي الخواجة وحسن مشيمع والدكتور
عبد الجليل السكنيس، وهم جميعا معتقلون ومحكومون بالسجن المؤبد.
بغض
النظر عما يحققه إضراب الخواجة على المستوى الشخصي، من افراج يحقق جانب
'الحرية' او استمرار اعتقال يؤدي الى 'الشهادة' وهما الهدفان اللذان
اعلنهما الخواجة لاضرابه، فقد دفع ذلك الاضراب قضية الثورة البحرانية الى
الواجهة، واعاد الاهتمام بها مجددا. وساهم في ذلك السجال المتواصل حول دورة
سباق السيارات المزمع عقدها الاسبوع المقبل في البحرين.
وما
يزال قرار اقامتها او الغائها مفتوحا، خصوصا بعد ان انتشر اللغط بشأنها
واصبحت سمعة السباق الدولي مضطربة بارتباطها بنظام تشوهت سمعته بسبب
انتهاكاته حقوق الانسان على نطاق واسع. وفجأة استيقظ العالم مجددا على
الوضع في هذا البلد الخليجي المبتلى، وادرك ان هناك حراكا سياسيا لم يتوقف
منذ اكثر من عام، وان المسيرات في ارجائه تتواصل يوميا.
وفي
اجواء اللغط والسجال على المستويين السياسي والديني حول الاضراب عن الطعام،
يمكن طرح العديد من الامور: اولها ان السجال الديني حول ذلك مستمر، وتكون
الفتوى حول مدى جوازه او حرمته مرتبطة بالظروف المحيطة بمصدر الفتوى، ولا
يمكن فصلها عن التوجه السياسي لدى الشخص او الجهة المعنية بالفتيا. فمن
يؤمن بالثورة والتغيير يرى فيه تجسيدا للنضال والجهاد ويهدف لتحقق مصلحة
اسمى، وانه لا يختلف عن الاحتجاج والتظاهر الذي قد يؤدي الى استشهاد
المشارك. بينما ينظر اليه آخرون بانه نوع من الانتحار غير المشروع. والواضح
ان ثمة اختلافا شاسعا بين التصرفين يجعل الاضراب ممارسة مختلفة تماما.
فبينما يتمثل هدف الانتحار اساسا بالتخلص من الحياة، فان هدف الاضراب عن
الطعام الترويج لقضية او موقف او مطالب، وليس الموت هو الهدف منه. وبالتالي
فلا يمكن قياس الموقف الشرعي من الاضراب عن الطعام بالموقف من الانتحار.
ثانيا: ان الاضراب عن الطعام ممارسة جديدة قديمة، مارسها المناضلون منذ
قرون، واصبحت اليوم نوعا من الممارسة التي ينتهجها المعارضون والسلطويون
على حد السواء كوسيلة ضغط فاعلة على نظام الحكم.
فهل يعتقد
عبد الهادي الخواجة بان امتناعه عن الطعام الذي قد يؤدي الى وفاته سوف يغير
موازين القوى لصالحه؟ الامر المؤكد ان الرجل كان مدركا لحقيقة واحدة: ان
الولايات المتحدة هي التي تدير الملف البحراني، وانها وفرت دعما سياسيا
للاجتياح السعودي للبحرين ويؤكد ذلك تصريحات هيلاري كلينتون مرارا بعد
الاجتياح. كما ان واشنطن اتخذت اجراء ضد الخواجة بمنعه قبل ثلاث سنوات من
دخول اراضيها وسحب تأشيرة الدخول للولايات المتحدة من جوازه.
ومن
خلال عمله الحقوقي في مواقع عديدة اكتشف الخواجة، كما اكتشف غيره من
النشطاء الحقوقيين، ان الولايات المتحدة تنطلق وفق ما تعتبره طريقا لتحقيق
مصالحها، ولا تهتم بحقوق الانسان من قريب او بعيد. فقد مارست التعذيب بحق
سجناء غوانتنامو، وبشكل خاص طريقة 'الايهام بالغرق' التي اعتبرتها المنظمات
الحقوقية كافة تعذيبا، بينما اعترف الرئيس السابق جورج بوش الابن بانه هو
الذي اقرها، مبررا ذلك بانها ساهمت في منع اعتداءات محتملة على اهداف
امريكية.
ان ملف الاضراب عن الطعام حافل ومتواصل خلال
التاريخ النضالي للشعوب، وهو سلاح الضعيف الذي لا يجد وسيلة اخرى للتعبير
عن ظلامته. هذا النمط من الاحتجاج كان واحدا من سمات مسيرة الزعيم الهندى
'المهاتما غاندي' المتحمس للسلام، الذي روج نهج بـ 'المقاومة السلمية'.
لمقاومة الاستعمار البريطاني في الثلاثينات. وفي العام 1932 م قررالصيام
حتى الموت احتجاجا على مشروع قانون يكرس التمييز في الانتخابات ضد الهنود
المنبوذين، واستجاب الزعماء السياسيون والدينيون له بالتفاوض والتوصل إلى
'اتفاقية بونا' التي قضت بإلغاء نظام التمييز الانتخابي.
ويؤكد غاندي بأن قيمة اللاعنف لا تقاس فقط بقدرته على تحقيق تغيير سياسي وإنما بكونه يسجل موقفا إيجابيا ضد الاستعمار والظلم.
ومارس
نيلسون مانديلا في بعض مراحل نضاله الاضراب عن الطعام، خصوصا عندما كان
سجينا بجزيرة روبين. فقد كان يزرع بحديقة السجن بعض وجباته الهزيلة.
قبل
ثلاثة شهور توفي المعارض الكوبي، ويلمان فيلار، بعد اضراب عن الطعام استمر
قرابة الشهرين، احتجاجا على اعتقاله وحكمه بالسجن اربع سنوات بسبب مشاركته
في مسيرة سلمية في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. ويمارسه كذلك الناشطون
الذين لا يملكون وسائل اخرى لتسليط الضوء على سياسات او مواقف سلطوية
يعتبرونها مشينة، كالفساد مثلا. ففي شهر اب (اغسطس) الماضي بثت شاشات
التلفزيون مشهد الرجل السبعيني، آنا هازاري، مضربا عن الطعام وهو جالس
باحدى الحقائق العامة في الهند، احتجاجا على قانون جديد لمكافحة الفساد
اعتبره الناشط 'النكتة السخيفة'، ووصف الكفاح ضد الفساد بأنه 'الحرب
الثانية من اجل الاستقلال'.
وأظهر إحصاء أخير أن 'الفساد
يكلف الهند مليارات الدولارات ويهدد بعرقلة نمو اقتصادها'. وأنهى هازاري
اضرابه بعد ان أوصل رسالته للرأي العام مع علمه بان امكانات الدولة تحول
دون انتشار الحقيقية.
ويمارس الاضراب عن الطعام بشكل اوسع من
قبل المعتقلين السياسيين لجذب الانظار الى قضيتهم والضغط على السلطات. فما
تزال المناضلة الفلسطينية هناء شلبي مستمرة في اضرابها عن الطعام احتجاجا
على ما تسميه سلطات الاحتلال 'توقيفا اداريا' استمر اكثر من عامين حتى
الآن. اختطفت هذه الفتاة من بين اهلها بمنطقة برقين احدى قرى جنين شمالى
الضفة الغربية، لان نشاطها ومواقفها لا تتناسب مع مصالح الاحتلال
الاسرائيلي.
وأضرب الاسير الفلسطيني، خضر عدنان عن الطعام
لمدة 66 يوما مطالبا بضمان حقوق الاسرى الفلسطينيين لدى الاحتلال
الاسرائيلي. وقال في 11 فبراير الماضي: 'أؤكد على أن إضرابي عن الطعام، ليس
من أجل قضيتي كفرد، إنما من أجل قضية أبناء شعبي، ومئات الأسرى الإداريين
المحرومين من أبسط حقوقهم'.
وأنهى عدنان، البالغ من العمر 33
عاماً، الذي ينحدر من قرية 'عرابة' جنوب محافظة 'جنين' في الضفة الغربية،
إضرابه بعدما تعهدت السلطات الإسرائيلية بالإفراج عنه في 17 نيسان/أبريل من
العام الجاري.
وكانت زوجة وزير العدل التونسي قد اعلنت
اضرابها عن الطعام تضامنا مع خضر عدنان. وفي الاسبوع الماضي بدأ الاسير
بسجون الاحتلال الاسرائيلي، عبد الله البرغوثي، البالغ من العمر 41 عاما،
وهو مسؤول الجناح العسكري بحركة حماس في الضفة والمعتقل منذ 2003 إضرابا عن
الطعام مؤكدا انه لن يفك اضرابه تحت اي ظروف من الظروف الا بعد تحقيق
مطالبه المتمثلة باخراجه من العزل الانفرادي والسماح لاهله في بزيارته.
وقال
البرغوثي ان اضرابه مستمر، فإما تحقيق مطالبه او الشهادة. ومن الجدير ذكره
أن الأسير محكوم 67 مؤبدا و5200 سنة، وهو صاحب أطول حكم عسكري في تاريخ
الاحتلال، ومعزول انفراديا منذ اعتقاله.
ولا يقتصر الاضراب
على المعارضين المسجونين، بل ان السياسيين قد يقومون به ايضا. فقبل شهرين
راودت الفكرة نوابا بمجلس الشعب المصري منهم زياد العليمي وعمرو حمزاوي
ومصطفى الجندي احتجاجا على الاوضاع حول وزارة الداخلية وضرب المتظاهرين
بالغاز المسيل للدموع وخراطيش الماء، وهي الحادثة التي فضحت اساليب القمع
التي تمارسها قوات الامن المصرية بتوجيهات المجلس العسكري. وفي بنغلاديش
اضربت في مايو 2008 قيادات حزب 'رابطة عوامي' عن الطعام، مطالبين باطلاق
سراح الشيخة حسينة واجد، زعيمة حزبهم ورئيس الوزراء السابقة، ومعها 170 من
السياسيين، واطلق سراحها لتخوض الانتخابات وتفوز برئاسة الوزاء للمرة
الثانية، وانهاء حكم العسكر. كما ان الاضراب يشمل المرأة ايضا، كما فعلت
هناء شلبي.
وقد دخلت المرأة في بداية القرن العشرين عالم
الاحتجاج جوعا، عندما تكررت حالات الاحتجاج من قبل النساء في السجون
البريطانية. وفي عام 1913 صدر القانون المعروف بقانون 'القط والفأر' الذي
كان يسمح بالتسامح مع حالات الإضراب عن الطعام مع القيام بإطلاق سراحهن إذا
ما ساءت حالتهن الصحية. وتتم اعادتهن للسجن عندما تتحسن صحتهن.
ولجأت
الأمريكيات أيضا لهذه الطريقة، احتجاجا على عدم السماح لهن بممارسة حقوقهن
السياسية. وقد نجحت تلك الوسيلة في الضغط على الرئيس الأمريكي وودرو
ويلسون الذي أعلن تأييده للتعديل 19 في الدستور الأمريكي الذي منح المرأة
حق التصويت.
وفي العصر الحديث كانت الحالة الاكثر درامية
وفاة عشرة من اعضاء الجيش الجمهورية الايرلندي في العام 1981 نتيجة الاضراب
عن الطعام. فبعد ان رفضت السلطات البريطانية اعتبارهم سجناء سياسيين
وتحسين اوضاع اعتقالهم تبعا لذلك، بدأ بوبي ساندز اضرابه الذي استمر 63
يوما قبل ان يتوفى، ولحقه تسعة آخرون واصلوا الاضراب واحدا تلو الآخر حتى
الموت. وقدمت السلطات البريطانية تنازلات جزئية لهم وتم فك الاضراب.
وقد
ارتبط الاضراب عن الطعام بمفهوم قديم اطلق عليه 'فعل التدمير الذاتي' الذي
كان محاولة لتعرية الظالم علنا الذي يسمح ببقاء انسان جائعا في كنفه. وفي
1917 مارس الجيش الجمهوري الايرلندي هذا الاسلوب من الاحتجاج من خلال
المناضل توماس آش زعيم ثورة عيد الفصح في 1916 في دبلن. وقد توفي ذلك
المناضل في السجن اثناء محاولة اطعامه بالقوة. وينسب اليه القول: 'من يعاني
أكثر من غيره هو من ينتصر في النهاية'. وافرجت السلطات البريطانية لاحقا
عن 89 من الناشطين الايرلنديين بعد اقل من ثلاثة اسابيع من اضرابهم عن
الطعام لتجنب المزيد من الحرج.
الواضح ان اغلب قرارات
الاضراب عن الطعام تحقق نتائج مرضية للقائمين بها. فحتى الاسرائيليون لم
يستطيعوا تجاهلها، برغم ممارستهم ابشع اشكال ارهاب الدولة، لانها تخلق
تعاطفا دوليا واسعا وتفتح الملفات السوداء للنظام المستهدف بالاضراب، وتحرج
حلفاءه بشكل كبير. وفي الاسبوع الماضي بدأ مناضلان بحرانيان، علي مشيمع
وموسى علي اضرابا عن الطعام عن الطعام امام السفارة الامريكية في لندن
مطالبين بالافراج عن اثنين من قادة الثورة مهددان بالموت: عبد الهادي
الخواجة المضرب عن الطعام منذ سبعين يوما تقريبا وحسن مشيمع الذي يعاني من
السرطان. وواصلا اضرابهما بعد اقتحامهما سفارة بلدهما في لندن مطالبين
بالافراج عن السجناء، وانتهى الامر باعتقالهما، كل ذلك لجذب الانظار الى
قضية شعبهما وثورته.
وهكذا يتضح ان الاضراب عن الطعام وسيلة
المناضلين السلميين الذين يمارسونه كمقاومة ذات طابع سلبي يتحاشى العنف
ويهدف لجذب انظار الآخرين الى قضيته. ان الاضراب عن الطعام وسيلة مفيدة اذا
اقترن بحراك سياسي ميداني، فحينئذ تتضافر جهود المناضلين والثوار لتقود
مسيرة التغيير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق