صوت الثورة
بعد تعليقنا السابق على الرسالة (37) للكاتبة الكريمة لميس ضيف، والتي عنونتها بـ"الشقاق حول الوفاق"، واستنتجنا فيه بتحليل المضامين بعيداً عن الصورة الظاهرية للمقال أنها دعوى "للوفاق حول الشقاق"،
كنا نأمل أن يستوقف الكاتبة ولو بعض ما أوردنا، لاسيما وأنها اعتمدت
الكلام المرسل فيما اعتمدنا الأحداث والوقائع والتحليل.. وتبعاً لذاك
الأمل، كنا قد عقدنا العزم على عدم الاستمرار في مطارحاتنا لما أسمته
الكاتبة (بالمصارحة).. والسبب في ذلك يرجع إلى أمرين، الأول: أننا لا نهدف
في مطارحاتنا لـ(مصارحات) الكاتبة للمناكفة أو مصادرة الحق في التعبير عن
الرؤية الشخصية وإنما كما أوضحنا في مطارحتنا الأولى اشتمال تلك المقالة
على العديد من المغالطات من العنوان حتى ما قبل نقطة نهاية السطر الأخير.
فوجدنا أننا ملزمين بالتعليق حفظاً للتأريخ والمستقبل.
أما
الأمر الثاني فيتمثل في الخشية من تفسير موقفنا على أنه عداء شخصي للكاتبة
أو التيار الذي تروج له، أو التهمة التي ما فتئت تلصقها بالثوار من
مصادرتهم لحريات الآخرين، وهو أمر نشدد على نفيه، إذ لا نحمل للكاتبة
الكريمة ولا للتيارات المعادية لمطلب شريحة واسعة من الشارع الذي تتشدق به
وتصر على أنها الممثل له (بالتعميم المطلق) والمتمثل في إسقاط النظام،
والمصرة (أي التيارات) على إنفاذ رأيها على إرادة تلك الشريحة الواسعة
ضاربة بتلك الإرادة عرض الحائط، انطلاقاً من القاعدة المغلوطة التي كنا قد
أشرنا إليها في المطارحة السابقة وغيرها من المقالات والمتمثلة في أعلمية
تلك التيارات وزعاماتها، وقدرتها الفائقة على إدارة ما تسميه بالأزمة
ويسميه الشارع بالثورة، وأنها ترى ما لا يراه الآخرون.. وهي كما قلنا ونكرر
وسنظل: قاعدة ليس لها أي اعتبار لعدم مبارحتها الوهم والإيحاء، لذلك فإنها
قاعدة مرفوضة رفضاً قاطعاً غير قابل للنقاش لتمحورها حول تعطيل العقل
وتعيين نائب للتفكير عن الآخرين وتقرير مصيرهم.
نقول: رغم
هذا الرأي السابق بعدم مطارحة (مصارحات) الكاتبة، إلا أننا لم نجد بداً،
كما كانت الحال في المطارحة الأولى، من المضي في ما كنا قد بدأناه بعد ما
وجدنا إصراراً واضحاً على خلط الأوراق من جهة وتقرير الرؤى الشخصية التي
تتبناها الكاتبة على أنها نتائج مسلم بها دون استنادها على التحليل أو على
أقل تقدير على العرض النزيه للوقائع. أما في ما يتعلق بالخشية من تأويل
موقفنا على أنه موقف عداء لأي جهة كانت، فإننا لما وازنا ضرر الصمت وضرر
السكوت، رجحت كفة الأخير.. وعليه، فإننا نمضي بعون الله تعالى وتوفيقه في
ما كنا قد بدأناه، والله من وراء القصد.
في الرسالة (38) المعنونة "حديث المصارحة الثاني: الحوار.. حتمية أم خيانة؟"
وهي المقالة المكملة لمقالة المغالطات الأولى (الرسالة 37).. وهي مكملة
بالفعل لا بمجرد التسلسل والترتيب، إذ ركزت الكاتبة جهودها في المقالة
الأولى -كما أسلفنا في مطارحتنا الأولى- على تسفيه الثوار وإثبات موقع
السياسيين، فيما خلص مقالها لما لم تكن ترغب به من نتيجة حيث ثبت بالتحليل
أن تبني إثارات الكاتبة إنما يُفضي إلى تسليم الدفة للثوار لا للساسة. أما
في هذه المقالة، فتقدم العبث خطوة للأمام لتشويه صورة الثوار بعد أن أنهت
الكاتبة مرحلة التسفيه.
محاولة التشويه هذه بدأت مع الفقرة
الأولى للمقال (الفقرة الخامسة في سلسة المغالطات)، حيث استشهدت الكاتبة
بحادثة يعلم الله مدى صحتها. وليس من الأهمية بالنسبة لنا إن كانت قد وقعت
بالفعل أم أنها من نسج الخيال، بل إن ما يهمنا هو ما نبينه في الأسطر
القليلة التالية. تقول الكاتبة في مطلع مقالها: "قبل أن أعتلي منصة الدوار،
الدوار الذي هدمته السلطة وحولته "لبارك: للمدرعات والجنود، جاءني أحد
المنظمين على استحياء: (أستاذة عاااد لا تجيبين طاري الحوار – قال متطلفاً –
أنت غالية عندنا ونخاف "يفلعونك" أمس "فالعين" واحد لهالسبب"، ثم تُعقِّب
بالقول: "لم أطعه بالطبع ونصحت الجماهير عشيتها باقتناص فرصة الحوار دام أن
السلطة مرتبكة ويد الجناح المتعجرف في العائلة الحاكمة مغلولة –مؤقتاً-
ولم يوافقني أو "يفلعني" أحد ولا أدري أقتناع بطرحي أم خوف على مشاعري!"
كما
ذكرنا، ليس مهماً بالنسبة لنا صدق أو عدم صدق هذه الرواية رغم كونها وفق
تعبير أهل العلوم الدينية (رواية آحاد)، كتلك الرواية التي رواها الخليفة
الأول عن النبي (ص) بعد وفاته: "إنني سمعت رسول الله يقول بأننا معاشر
الأنبياء لا نورث"، والتي ألقت بظلالها ولا تزال على الأمة الإسلامية
فشقتها في فريقين، واتخذها جمع من المطبلين عبر الزمن ذريعة لتعزيز الشقاق
في جسد الأمة الإسلامية، ولا يزال ديدنُ القوم فِعلُ السلف حتى اليوم،
وسيظل حتى الغد لا محالة. المهم، بل الغاية في الأهمية، عندنا هنا هو أنه
مع فرض صحتها فإن تلك الحادثة التي أشارت إليها الكاتبة إنما جاءت من فرد
لا من جموع الثوار، وقد أنكرناها واستنكرناها كما فعل جميع الثوار حينها،
بينما لجأت الكاتب لإيرادها لإيهام القارئ من خلال أسلوب التعميم الذي
تعتمده - وتعتمده التيارات السياسية في كل خطاباتها وهي التيارات التي
تراها الكاتبة الأصلح والأمثل والأفهم والأقدر على قيادة الدفة- بعنجهية
وهمجية وديكتاتورية الثوار الذين إن خالفهم أحدٌ في الرأي برز الحيوان في
داخلهم (وأجل الله الثوار عن هذا الوصف)..
أرادت الكاتبة من
خلال افتتاح مقالتها بهذه العبارة السمجة أن تقول: هذه هي أخلاق الثوار،
لذا فإنها لم تورد فيما بعد أن خمساً من الشخصيات المعروفة، من بينهم سماحة
الشيخ محمد حبيب المقداد (فرَّج الله عنه) والشيخ حسين الأكرف وغيرهم،
اعتلت المنصة فوراً بعد هذا التصرف الأرعن من فرد واحد وأعلنت استنكارها
وأكدت على حق الجميع في التعبير عن آرائهم بكل صراحة وحرية، ثم عاد المرزوق
–وهو الشخص المعني في هذه الحادثة- لمتابعة حديثه الذي اختُتم بالتصفيق
الحار والهاتفات الساخنة من الجماهير، بل ونذكر الجميع، والأخ الفاضل خليل
المرزوق حيٌ يرزق (أمد الله في عمره) ويمكن التأكد منه شخصياً، بأنه غادر
المنصة حتى نهاية الجموع محمولاً من قبل الثوار الذين أحاطوا به ليؤكدوا
نبذهم لهذا التصرف الفردي.. ونقول: هذه هي أخلاق الثوار يا كاتبتنا
الفاضلة.
تذكيران أخيران للأخت الكريمة حول هذه المقدمة
السمجة، الأول هو أن لقاءها الذي أشارت إليه في الدوار، لم يكن في اليوم
التالي لهذه الحادثة كما بدا من العبارة الافتتاحية في مقالها، ونتحفظ عن
ذكر التواريخ لسبب بسيط وهو أنه –كما اشرنا سابقاً- ليس هدفنا تكذيب أو
تصديق الرواية الأحادية التي أوردتها الكاتبة.. فإذا ما أصرت الكاتبة فلا
ضير من ذكر ذلك لاحقاً، وإن كنا لا نأمل ذلك حقاً.. أما التذكير الثاني فهو
أن جماهير الثورة، ونقول جماهير الثورة تحديداً الذين علا هتافهم بـ"الشعب
يريد إسقاط النظام" كواحد من جملة الهتافات التي كانوا يرددونها- كان في
قمة التفاعل طيلة فترة حديثها، وكانت تلك الهتافات قد بدأت بـ"شكراً لكم
شكراً لكم" واختتمت بذات العبارة، ولم يكن أمر (الفلعة) وارداً أو متوقعاً
في مشهد كهذا، فعدم (فلعها) لم يكن مراعاة لمشاعرها، وإنما لأنه بكل بساطة
خُلُق الثوار، الذي نقول لمن يعيبه: العيبُ كل العيبِ فيك وعليك..
نكتفي
بهذا القدر، ونعتذر للقارئ الكريم عن الإطالة في هذه النقطة، حيث أنها من
وجهة نظرنا، هي النقطة الأهم في كل المقال، لما تشكله من أمر في غاية
الحساسية، وننتقل للحديث في بقية المغالطات، وذلك على النحو التالي:
النقطة الأولى: هل مفردة الحوار مشبوهة والمحاور خائن؟
تقول
الكاتبة: "لقد تحول (الحوار) لكلمة مشبوهة بسبب حزمة من الشعارات: (الحوار
خيانة لدم الشهداء)، (لا حوار إلا في الدوار)، (لا حوار مع القتلة)،
ومثيلاتها من الشعارات التي تؤطر الرفض بلغة مشبعة بالتخوين كفيلة بتخويف
وتهديد من يجرؤ على الدفاع عن الحوار".
وما نود بيانه هنا
للأخت الكاتبة وللقارئ الكريم هو أن الحوار مع النظام تحول بالفعل لكلمة
مشبوهة –على الأقل من وجهة نظرنا كثوار- لكن هذا التحول لم يكن بسبب شعارات
كما رأت الكاتبة، إذ لا ينطلق الثوار في موقفهم من منطلقات عاطفية.. وإنما
جرى هذا التحول في مفردة "الحوار" مع النظام فقط وليس أي حوار، تأسيساً
على وقائع ملموسة ومحسوسة كانت هي الباعث على قيام الثورة، منها على سبيل
المثال لا الحصر استمرار نكث العهود والمواثيق في أعقاب كل حوار، وتكريس
العمل خلف الكواليس لتمزيق المجتمع على أسس طائفية بغيضة والتي تم بحمد
الله كشفها في تقرير البندر وغيره من التقارير والمعلومات التي تم فضحها
بفضل الله لتكون بينة لصالح الشعب لا معلومةً تضاف إليه، إذ أنه يعيش ذلك
الواقع ويعلمه جيداً، وإنما كان التقرير بَيِّنةً يستند عليها أمام العالم.
أما مفردة الحوار بشكلها العام – أي مع غير النظام – فلا نقول أنها موضع
قبولٍ أو ترحيب فقط، بل إنها موضوع دعوة من الثوار للجميعات السياسية
للدخول في حوار مع بقية الفصائل المعارضة، وها هي أدبيات الثوار تملأ صفحات
شبكة الإنترنت، وهي دعوة تُحجم عنها الجمعيات السياسية إدراكاً منها أنها
لا تتمكن من مقارعة الحجة الشعبية وبالتالي ستكون أمام خيارين أحلاهما مر،
الأول أن تلتحق بالرأي الآخر، والثاني: أن تتمسك برأيها فتخسر شريحة واسعة
من الشارع. وهذا يدلل على أن رفض الحوار لا ينطلق من منطلقات عاطفية بتاتاً
لكونه رفضاً موجهاً لا رفضاً شمولياً..
تقول الأخت الكريمة:
"ولأني بحرانية حربية سأعقد معكم صفقة خاصة: سأقبل بتخوينكم واستهزائكم
ورفضكم – مسموحين مقدما – شريطة أن تتمعنوا فيما سأسرد وأقول".. وسنتجاوز
عن محاولة هذه العبارة لتكريس الحقيقة المغلوطة في أن خُلُقَ الثوار هو
التخوين والاستهزاء والرفض لكل من يخالفهم، لنقول في المقابل: "نحن
بحرانيون مسالمون لكننا أصحاب عزةٍ وأنَفَة، ولسنا حربيين بطبعنا، ولذلك
قبلنا بصفقتك التي عقدتها مع مراعاة أننا لا نخوَّن، ولا نستهزئ، (فلك أن
تعتبري هذا ربحاً حلالاً عاد عليك من الصفقة حيث كسبته دون أي نفقة)، أما
الرفض فمن حقنا أن نرفض ما لا يقبله العقل غير منتظرين منك أو من غيرك أن
يسمح لنا في ذلك.. وعليه، فإننا سنعمل فيما يلي بمقتضى دورنا في هذه الصفقة
فنتمعن فيما سردتِ من قول"..
النقطة الثانية: أمثلة من التاريخ:
كان
أول الأمثلة التي ساقتها الكاتبة –ونحن نتمعن فيها بناء على الصفقة التي
عرضتها وقبلناها- شيخ المجاهدين عمر المختار (رحمة الله عليه) الذي "حارب
الإيطاليين وخاض معهم 263 معركة استجاب ودخل مفاوضات السلام في سيدي ارحومة
مع بادوليو- الرجل الثاني بعد موسليني- ولما وجد شروط السلام مجحفة بحق
شعبه رفضها.. فهل دخل المختار المفاوضات جهلاً أو ضعفاً أم لأنه يجهل أفعال
المستعمر بشعبه؟"..
مثال غير موفق على الإطلاق، حيث أن عمر
المختار دخل المفاوضات حاملاً إرادة شعبه لا إرادته ومرئياته هو، فلما وجد
شروط السلام (وهي إرادة شعبه) مجحفة رفضها.. بينما يدخل الراغبون في الحوار
في وضع الثورة البحرانية حاملين مرئياتهم هم وليس إرادة الشارع، ولكي نكون
دقيقين أكثر نقول إرادة شريحة واسعة من الشارع، إذ أنه ليس من حقنا أن
ننكر أن هناك شريحة تؤيد طرح ومرئيات الجمعيات، وهو حق من حقوقهم لا تجوز
مصادرته لمجرد مصادرة الجمعيات حق الطرف الآخر. والفرق بين الحالين كبيرٌ
لكنه لا يحتمل المزيد من التفصيل، لكي لا نطيل على القارئ الكريم. وسنكتفي
بالقول درءاً للاعتراض ليس أكثر، أن الجمعيات السياسية الراغبة في الدخول
في الحوار هي من يقول بأن الحوار يتأسس على ما ورد في وثيقة المنامة، وهم
القائل –لا نحن- أن وثيقة المنامة هي مرئيات الجمعيات السياسية للخروج من
"الأزمة السياسية" حسب وصفهم. لذا، فإن الحوار لا يمثلنا ولسنا ملزمين
بالقبول به، أو بنتائجه إذا ما تم لا سمح الله.
وذات الأمر
يجري على المثالين اللاحقين وهما نيلسون مانديلا الذي حاور سجانيه بمطالب
شعبه لا برأيه، وحروب القدماء. ومجدداً سنتغاضى عن المحاولات المتكررة لوصف
الرافض للحوار بأبشع الصفات كما في قول الكاتبة: "ولكنها التزام أدبي
وأخلاقي عند المتحاربين يدل على النبل ويشير تجاوزه على العدائية
والهمجية"، إذ لا زلنا نصر على أن الثوار ليسوا عدائيين ولا همجيين وإنما
يتمسكون بمبادئ وأهداف واضحة على عكس السياسيين، كما أسلفنا في مطارحتنا
السابقة، وأسلفت الكاتبة في (مصارحتها) الأولى، حيث قالت: " ولا أشك أن
نقاء الثائر ومبادئه أسمى من مبادئ السياسيين".
النقطة الثالثة: التحول في الصراعات وآلة الحرب:
ترى
الكاتبة أننا نعيش اليوم عصر "الصراعات الناعمة" وهي صراعات مغايرة
لصراعات "عصر السيف والمنجنيق والفيلة".. وتستنتج بعد بعض البيان أن سبب
قلة الضحايا في الصراعات الناعمة –حسب وصف الكاتبة- هو أن "الصراعات تبدأ
بهزيمة سياسية وإعلامية تعقبها هزيمة عسكرية سائغة".. والسؤال ها هنا بعد
أن تمعنا جيداً في هذه الصورة السريالية التي رسمتها الكاتبة بناء على
الصفقة القائمة، فوجدنا أن "عدد الضحايا قد تقلص من الملايين إلى الآلاف
وربما مئات رغم أن آليات الدمار صارت أقوى وأشرس" هو أن أن آليات الدمار لا
تُستخدم رغم امتلاكها، وإنما يُستخدم سلاح السياسة والإعلام، لذلك كانت
الهزيمة باستخدام ذات السلاح.. أما في البحرين، فالحرب حرب القرون الوسطى،
حيث لم يألُ النظام جهداً ولم يدخر فرصةً في استخدام آلة الدمار التي
يمتلكها إلا واستثمرها، بل واستقدم آلة الدمار التي لا يمتلكها من جيرانه،
ليواجه بها شعباً أعزل.. ومع ذلك، استمر الشعب في استخدامه سلاح السياسة من
خلال اعتماده التظاهرات السلمية –والتي تشكل ضغطاً سياسياً على النظام-
والآلة الإعلامية المتواضعة ليقابل بها فوهة البنادق والدبابات، ولم يزل
كذلك حتى اللحظة رغم الموقف السياسي والإعلامي المخزي على المستويين
الإقليمي والدولي. ومع ذلك، كانت النتيجة أنْ كان من نصيب النظام وآلته
العسكرية الفتاكة كل دعم سياسي ومادي ومعنوي وإعلامي من جيرانه وحلفائه،
وبمعنى أدق من العالم كله عدا ثلاث أو أربع دول. وعليه، فإن هذه المقاربة
وهذا المثال من الكاتبة لم يكن للأسف موفقاً كما هي الحال بالنسبة لما سبقه
من أمثلة.
النقطة الرابعة: الحوار جزء من الصراع:
بعد
هذا العرض، خلصت الكاتبة لنافلة فكرتها قائلة: "إن المفاوضات لطالما كانت
جزءاً من أي صراع.. المناضلون حاوروا المستعمرين والسجانين.. والمعارضون
يحاورون سلطات يرفضونها كما يحدث الآن في اليمن وموريتانيا وحتى في سوريا
رغم وحشية القمع إلا أن أنباء تتوارد عن محاورات سرية في روسيا.. فالحوار
ليس استسلاماً ولا بيع ولا شراء.. إنه وسيلة حضارية لحل الخلافات والحد من
الخسائر وهو –في حده الأدنى- وسيلة لشرح وجهات النظر وفهم الخصم وتقدير
المواقف".
ونعقب على ذلك بالقول: إن الحوار جزء من أي صراع،
فهذا أمر لا إشكال فيه، لكنه في كل الأحوال ليس كل الصراع، والجزء لا يطغى
على الكل. وقد كان هذا الجزء حاضراً في صراع الشعب مع النظام طيلة العقود
الماضية، إلا إذا كانت الكاتبة الكريمة تعتبر أن ما يجري في البحرين الآن
هو حادثة أو "أزمة" كما يحلو للسياسيين أن يسموها فريدة من نوعها تحدث
للمرة الأولى.. وقد أعطى الشعب النظام الفرصة تلو الأخرى فدخل في محاورات
ومفاوضات نتجت عنها بعض المكاسب الشكلية التي تفاوتت بين عقد وآخر، لكنها
انتهت بنفس الشكل والقالب والذي تمثل في نكث العهود والمواثيق.. ونذكر
الكاتبة الكريمة والقارئ الفاضل ها هنا بأن أحداث التسعينات قد انتهت
بالتفاوض والحوار الذي أنتج ميثاق العمل الوطني، وكانت بعض قيادات العمل
الثوري اليوم جزءاً من التفاوض بالأمس، أي أنها لم تشط عن منهج الحروب
والصراعات، بما في ذلك الصراعات في زمن السيف والمنجنيق والفيلة، حيث أن
الحوار إذا ما فشل أو أن ميثاق ومعاهدات الحوار قد تم نقضها من قبل أي طرف،
فإن الحرب تكون هي الفيصل حتى سقوط أحد طرفيها.. فكيف والنظام الخليفي قد
دأب على نكث العهود مقابل ما دأب عليه الشعب عبر العقود من إبداء حسن النية
والحالة السلمية بمنحه فرصة للحوار!!
أما في ما يتعلق بالحد
الأدنى من الحوار حسب تعريف الكاتبة وهو كون الحوار "وسيلة لشرح وجهات
النظر وفهم وتقدير المواقف"، فإننا سبق وأن ذكرنا، أن المسألة ما عادت
وجهات نظر غير معروفة ولا مواقف غير مألوفة، بل إنها مسألة حرب معلنة من
طرف يملك العدة والعتاد والحكم والبلاد ضد شعب أعزل يملك إيمانه وقناعاته،
التي لا تخالفه فيها التشريعات السماوية ولا الوضعية، بأنه صاحب حق مهتضم.
هذا من جهة أما من الجهة الأخرى، فإن تلك الحرب الشعواء التي شنها النظام
ضد شعبه لم تقف عند حدود الحق الإنساني بل تعدته للحقوق الإلهية بانتهاك
حرمات الله شِهاراً جِهارا.. وحيث أن الطرف المستضعف في هذه المعادلة يعبد
رباً قال له: (أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ
وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم
مُّؤْمِنِينَ)، فإنه إنما يمتثل أمر الخالق لا أمر المخلوق.
النقطة الخامسة: حوار السلطة مع الجمعيات المعارضة:
تشير
الكاتبة إلى وجود "أحاديث مسربة تفيد بحوار قريب برعاية أمريكية" وأن
قيايدي تجمع الفاتح الموالي قد نصبوا "صيوان عزاء لما تناهى لمسامعهم أن
سيستثنون منه" وأن بعض المعارضين قد "سنوا حرابهم تأهباً للطعن في من
سيشارك فيه".. وهنا لنا وقفات ثلاث:
الوقفة الأولى: الرعاية الأمريكية:
إن
الرعاية الأمريكية للحوار المزعوم مرفوضة رفضاً قاطعاً نظراً لدخول
الإدارة الأمريكية طرفاً في الصراع بتقديم الدعم السياسي والإعلامي بل
والعسكري المباشر للنظام.. ولعله من المفيد التذكير بأن جل ما استنشقه
أبناء الشعب العزل من غازات سامة ومعظم ما اخترق أجسادهم من الرصاص كان
مصدره الولايات المتحدة الأمريكية التي بلغ حد استخفافها بأرواح الناس إلى
المضي في إنفاذ صفقات سلاح للنظام المجرم وهي ترى رأي العين مواضع
استخدامه، كما وابتعثت جنرالاتها لتدريب مرتزقة النظام ورسم الخطط لمواجهة
الشعب الأعزل.. وكان أول غيث تلك التدريبات حشر عدد ليس باليسير من
المدرعات في أزقة القرى.. فعلى فرض قبول مبدأ التحاور مع النظام برعاية ما،
فإنها قطعاً لن تكون الرعاية الأمريكية أو البريطانية أو التركية أو
السعودية أو الإماراتية أو الكويتية، وتطول قائمة الأنظمة الداعمة للنظام.
الوقفة الثانية: صيوان العزاء عند قيادي تجمع الفاتح:
ما
يجب أن تعلمه الكاتبة الكريمة ويعلمه الجميع، أن الثوار لا يرون في تجمع
الفاتح خصماً لهم رغم موقفهم الداعم والمؤيد لإجرام النظام، وإنما الخصم هو
النظام. وعليه، فإن إقصاء بعض المواطنين (ولا يخص الحديث هنا جمع
الآسيويين في تجمع الفاتح وإنما المواطنين الأصليين فقط)، لا يُعتبر من
وجهة نظر الثوار الذين رغم ذلك الموقف المخزي من شريحة واسعة من أبناء
السنة وليس كلهم وشريحة يسيرة من الشيعة وليس جُلُّهم، لم يتركوا شعارهم
الذي به بدؤوا الثورة "إخوان سنة وشيعة وهذا الوطن ما نبيعه"، لا يعتبر هذا
الإقصاء أمراً مفرحاً على الإطلاق، بل إنه موضع استهجان، فالبحرين ليست
حكراً على الشيعة دون السنة، ولا على المسلمين دون غيرهم، كما أنها ليست
حكراً على المعارضة دون الموالاة –ونكرر: رغم خزي موقفهم الذي يأمل الجميع
أن يتبدل بعد أن يُعمِلوا عقولهم التي شبَّعها النظام بأوهام لا أساس لها
في إطار حربه على شعبه- فالفيصل والحكم في من يقرر مصير البلاد مرهون
بالمواطنة الحقيقية.. وهذا هو الشعار الذي يرفعه الثوار: حق الشعب
–والموالاة جزء منه- في تقرير مصيره، ولم يرفع الثوار يوماً شعار: حق
المعارضة في تقرير مصير البلاد..
الوقفة الثالثة: شحذ حِراب بعض المعارضين:
في
هذه الوقفة نعمد لتصحيح عبارة الكاتبة وهي أن بعض المعارضين "قد سنّوا
حرابهم تأهباً للطعن في من سيشارك فيه (أي الحوار)"، بأن هذا البعض الذي
تعنيه الكاتبة، وهو البعض الثوري لا السياسي، قد انتهى منذ عام مضى من شحذ
حرابه لطعن عدوِّه، ولم يعد في مرحلة الشحذ وإنما مرحلة السعي لإعادة حقه
المسلوب بما شحذ من حراب.. ولن يقبل هذا البعض، أن يستفرد بعضٌ آخر بقراره،
أو أن يصادر حقه في تقرير مصيره، تأسيساً على قاعدة أن ذلك البعض يرى ما
لا يراه هذا البعض. فمن أراد أن لا يكون في موضع التهمة فليتجنب موضع
الشبهات. ونشير بوضوح ها هنا، إلى أن الحراب لن تكون موجهة بسبب محاورة طرف
للنظام في مرئياته، لكنها لن تكون مُنَكَّسة في حال نَصَّب ذلك البعض نفسه
عنوةً نائباً عنه، فثورة الثوار إنما جاءت لتقول: نحن هنا ولنا أصواتنا
ولا نقبل أن نساق سوق النعاج.
النقطة السادسة: الحوار الوطني – حوار حزيران:
أوردت
الكاتبة مثالاً طريفاً للتدليل على صحة خيار الحوار، هو في الواقع ذاته
المثال الذي يتبناه الثوار للتدليل على خطأ هذا الخيار، حيث قالت: "دخلت
المعارضة في حزيران حوار الحكومة المزيف ممثلة بخمسة أعضاء وسط 300 مشارك،
كانوا يدركون عقم الحوار بهذا القالب وانسحبوا سريعاً ولكنهم كسبوا بدخولهم
نقطة.. وبانسحابهم أخرى".. والطريف في هذه العبارة هو أنها أشبه ما تكون
بنسخة القرن الحادي والعشرين من عبارة القرن السابع والتي تقول: "إذا اجتهد
المسلم فأصاب فله أجر، وإذا اجتهد وأخطأ كان له أجر".. والتي طبقها
المطبلون من ذلك الزمن وحتى يومنا هذا على قتل يزيد الفاجر لسبط رسول الله
(ص) الحسين بن علي، فقالوا: إن يزيد قد اجتهد في قتل الحسين فأخطأ فله أجر
الاجتهاد!! فوا أسفاه على أمة اختارت عنوة أن تعطل عقلها لخدمة ميل نفسها..
إن
موطن السخف في حديث الأجر في الصواب والخطأ، هو أنه يُقر ذات الثواب في
حالين متناقضين، فيما سنة الحياة أن في الصواب ثواب وفي الخطأ عقاب، وهي
سنة الله جل شأنه، كما أنها سنة القوانين الوضعية.. وهذا عينه ما نراه في
تلك العبارة التي تحدثت عن مكسب في الدخول ومكسب في الانسحاب، ولم تشر من
قريب أو بعيد لأي خسارة.. وهو أسلوب مقزز في تحويل كل خطأ يرتكبه القائد
الأوحد (شخصاً كان أو جماعة) إلى حكمة ذات أبعاد لا يدركها إلا من رحِم
ربي.
لقد تجنبنا في السابق الحديث عن حوار حزيران وما نتج عن
المشاركة فيه، لكننا وبعد هذه الإثارة لابد وأن نتعرض له بشيء من البيان،
وباقتضاب شديد، حيث أن الحديث في هذا الأمر يطول، علاوة على أن المقام ليس
مقام هذا الحديث.
فلقد كان الجميع يعلم بفشل الحوار بمن فيهم
الجمعيات السياسية المشاركة والنظام نفسه، إذ لم يكن غرض النظام من الحوار
الوصول إلى نتيجة، وإنما تمثل غرضه في أمور ثلاثة هي: أولاً: الظهور أمام
الرأي العام العالمي الذي خسره بفضل إعلام الثورة –والجمعيات السياسية جزء
منها بطبيعة الحال- بمظهر الساعي لتصحيح المسار وإشراك القوى الشعبية في
معالجة (الأزمة). ثانياً: كسب الوقت لإعادة ترتيب أوراقه التي اختلط فيها
الحابل بالنابل لتضارب الرؤى والمناهج في صفوفه. ثالثاً: تحويل الصراع من
صراع شعبي ضد النظام لصراع بين فئات شعبية، وبتعبير أدق بين تيارات مذهبية،
وهي الصبغة التي سعى النظام لتكريسها منذ أن أدرك أن الثورة لم تقم لكي
تنتهي بإصلاحات ترقيعية كما جرت العادة.
ولم يكن النظام
ليحقق هذه الأغراض الثلاثة لو أن الجمعيات السياسية قد امتنعت عن المشاركة،
لاسيما وأنه قد أضفى الصبغة الوطنية على ذلك الحوار، فسماه "الحوار
الوطني".. وواقع الحال أنه لم لو تشارك الجمعيات السياسية في ذلك الحوار
لما جاز له أن يسميه حواراً وطنياً لكون جميع المشاركين فيه هم من المنتمين
لصبغة واحدة هي "الموالاة" بينما المعارضة غير ممثلة فيه.. ووفق الأعراف
السياسية لا يصح الاعتداد بوطنية هذا الحوار لغياب طرف رئيسي عنه..
وعليه،
فإن مشاركة بعض الجمعيات السياسية المعارضة قدمت للنظام طوق النجاة الذي
كان يبحث عنه لإنقاذ نفسه من الغرق وسط تلك الأمواج المتلاطمة.. ولم يكن
النظام يأمل أكثر من مجرد دخول جزء من المعارضة ولو لدقائق خمس في الحوار
كي يتمكن من تثبيت الصبغة الوطنية عليه، وليكن الانسحاب فيما بعد. لذلك
وجدنا اهتمام النظام بالغاً بمشاركة الجمعيات السياسية المعارضة –فيما عدا
جمعية العمل الإسلامي التي زج بكل قياداتها في السجن لموقفها المعلن من
تبني الإرادة الشعبية ورفض التحاور مع النظام لرفض الشارع له بالإضافة إلى
قناعته المعلنة كتيار سياسي- بينما لم نجد ذات الإصرار من النظام عندما
أعلنت الجمعيات المشاركة انسحابها.. بل إن النظام من خلال أبواقه وأقلامه
المأجورة عمد للتأكيد في اللقاءات الإعلامية والمقالات وغير ذلك للتأكيد
على أسَفِهِ لانسحاب تلك الجميعات وأمله أن تعدل عن هذا القرار مع احترامه
لرغبتها في تعليق مشاركتها فيه.. وذلك من باب التعزيز الذهني لدى المتلقي
بأن الجمعيات قد شاركت والسلام..
عوداً على ميزان المكاسب
والخسائر، نقول: إن مشاركة الجمعيات كانت هي الخسارة الكبرى بالنسبة للساحة
الثورية، ذلك أنها من جهة أضفت الطابع الوطني الذي تشدق به النظام وتشدق
به حلفاؤه في الشرق والغرب لفترة من الزمن، ليتحقق بذلك الغرض الثاني
المتمثل في كسب الوقت.. أما من الجهة الأخرى فقد تحقق الغرض الثالث المتمثل
في تحويل مسار الصراع من الحالة الشعبية ضد النظام إلى الحالة المذهبية
بين طائفتين، وذلك بمجرد قبول الجمعيات الجلوس على طرف المعارض مقابل خط
المولاة على الطرف المقابل، فيما بدا النظام في موضع المدير للحوار، وهو ما
يُستدل عليه برفع توصيات المتحاورين للملك للبت فيها، بينما يشكل النظام
ومن ضمنه الملك، جزءاً أساسياً من الحوار، سواء قلنا بإسقاط النظام ورحيل
الملك أو بإصلاحه وإقامة مملكة الدستورية، فالحالين سواء في كون الملك
جزءاً من الصراع وليس مديراً له.
أما الخسارة الأخرى فتمثلت
في الانسحاب من الحوار، حيث أن النظام عمل على قلب المشهد بإظهار عدم جدية
المعارضة في الحوار وعدم قدرتها على الصمود وعدم تمتعها بالمرونة. وأيضاً،
لفترة من الزمن فقط، حيث أن النظام يدرك أن هذا الملعوب إنما مآله للزوال،
غير أن حاجته للوقت –الغرض الثاني- تعتبر ماسة وكبيرة، وقد منحت الجمعيات
النظام بهذه المشاركة ما كان يبحث عنه.
وعليه، فإن دخول
الحوار والانسحاب منه قد شكل كلاهما خسارة لا مكسباً.. غير أن الانسحاب عزز
رؤية الثوار في رفض التحاور مع نظام دأب على نكث العهود والمواثيق. ومن
هذه الزاوية فقط، نقول أن الانسحاب قد شكل مكسباً جزئياً، وهو مكسب بطبيعة
الحال لصالح الثوار لا السياسيين.
نكتفي بهذا القدر في شأن
حوار حزيران، ولعلها تسنح الفرصة مستقبلاً للخوض في تفصيل أكبر، إذ يحتاج
الأمر إلى وقفات عديدة لا يتسع لها المقام.
النقطة السابعة: النفع والضرر في الحوار مع النظام:
تقول
الكاتبة: "شخصياً أشجع على أية مفاوضات وحل سياسي يقودنا للدولة العصرية
التي نصبو لها. ومثلكم جميعاً لا أقبل إلا بإعادة الاعتبار للضحايا ومحاكمة
الجلادين وتغيير جذري في بنية النظام يُعفي الأجيال القادمة مما
قاسيناه".. والسؤال هنا: أليس الملك بحكم موضعه، وبحكم علمه بكل ما يجري من
في البلاد وبممارسات الجيش والأمن وأجهزة الإعلام الرسمية لما أسماه
بالحفاظ على الأمن، وهو ما اعترف به شخصياً على شاشات التلفاز، وكذلك
اعتذاره عن سقوط الشهداء في بداية الثورة، ما يدلل على علمه بالفعل بما
يجري، أليس هو في موضع الجلاد؟ فإن كانت الكاتبة ترى أنه كذلك، فكيف تدعو
للحوار مع الجلاد حول إخضاعه للمحاكمة وتطبيق القصاص عليه إذا ما ثبت عليه
الجرم؟ وإن لم تكن ترَ ذلك، فهذا يستلزم إعادة النظر، إذ ليس من المنطقي أن
يقف القاتل فيقول أنا القاتل، ثم يبني الدفاع مرافعته على أساس براءته من
التهمة المنسوبة إليه، بينما القاعدة القانونية أن الاعتراف سيد الأدلة.
أما
السؤال الآخر، والذي نوجهه لكل من يتبنى رأي الحوار مع النظام الدموي
القاتل وليس للكاتبة فقط، فهو: إننا قد بينا الضرر من الحوار، فهلا بينتم
المنافع منه بمنهجية علمية لا بكلام مرسل وصلاة إلى الرب بأن يكون النظام
صادقاً في هذه المرة ويفي بوعوده، فنحن كما الكاتبة الكريمة: نريد حلاً
جذرياً يُعفي الأجيال القادمة مما قاسيناه.. فإذا ما بينتم ذلك ففاق النفع
الضرر، عدلنا عن ما نراه، وإلا كان إصرارنا على رفض الحوار والمضي في
الثورة هو خيارنا، وذلك عملاً بالتحريم بناء على قاعدة الضرر والنفع، حيث
تكون القبول إذا فاق النفع الضرر (مع تفاوت درجة القبول بين الجواز
والوجوب) ويكون الاجتناب إذا فاق الضرر النفع (مع تفاوت درجة الحرمة بين
الكراهة والحرمة).. قال تعالى (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير
ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما)..
النقطة الثامنة: لماذا استشهد الشهداء؟
تتساءل
الكاتبة الكريمة: "هل فاضت تلك الأرواح الطاهرة في سبيل غدٍ أفضل للوطن
والأجيال القادمة أم سال نكاية في فلان وعلان؟" ثم تسترسل قائلة: "قضيتنا
أكبر من شخوص.. إنها قضية كرامة وبناء دولة ولن يفيدنا أن نغير كل وجوه
النظام لو لم يتغير حالنا جذريا.. فالعنب لا رأس الناطور هو مبتغانا،
وتقويم الإعوجاج العام –لا تبديل الوجوه- يجب أن يكون هدفنا الأسمى"..
ويؤسفنا
أن تعود الكاتبة لتختم مقالها بمغالطة جديدة تقوم على أساس تحوير وتزييف
موقف الثوار على أنه موجه ضد شخوص، لمجرد أنها لا تتبنى هذا الرأي، بينما
يتبنى الثوار إسقاط نظام قائم وإقامة نظام بديل يقوم على أساس توفير
الضمانة الكافية لامتلاك الشعب سلطته الكاملة غير المنقوصة، وهي ضمانة لا
يمكن توافرها في النظام القائم اعتماداً على ما تقدم من خبرات وتجارب. ولو
كان ذلك ممكنا لكان في ما مر من الزمن.. ولعل الأمر التبس على الكاتبة في
فهم شعار الثوار: "يسقط حمد" بأن المطلوب هو إقصاء حمد عن سدة الحكم
والإتيان بملك آخر مكانه كابنه سلمان أو غيره، أو حتى ملك من عائلة أخرى..
فهذا مطلب السياسيين الساعين لتغيير الوجوه لا مطلب الثوار.. فشعار "يسقط
حمد" ينطلق من كون "حمد" رأس النظام وممثله، لا من كونه حمد بن عيسى. أي أن
مطلب الثوار ومساعيهم للعنب، بينما مساعي السياسيين الناطور المتمثل في
هذا السياق في رئيس الوزراء المطلوب إزاحته والإبقاء على ملكٍ هَدَمَ
المساجد وأحرق القرآن وهتك الأعراض والحرمات في قالب مملكة دستورية، أي أن
يكون ملكاً رمزاً للبلاد، وعليه فإن المواطن البحريني يكون منتمياً لوطن
رمزه من أشهَرَ سلاحه لحرب الله جلت عظمته.
مما تقدم، يتبين أن الحوار خيارٌ لا "حتمية" فيه، وأن الدخول فيه إنما يعتبر انتحاراً
سياسياً وأخلاقياً. وإننا إن كنا نصر على رفض تخوين أي طرف، إلا أننا لابد
وأن نلفت النظر إلى أن من رأى الخطأ بعدما تبين له، وأصر على المضي فيه
اعتزازاً برأيه وتجاوزاً على الحقائق والوقائع بدعوى أنه الممكن وما دونه
غير ممكن، فلا يلومنَّ من قال له إنك مخطئ وإنما يكون اللوم والعتب والأسف
لنفسه، فترك الخطأ أولى من الأسف والندم عليه.
ونختم القول
بكلمات للكاتبة الكريمة كانت قد ألقتها على مسامع الثوار في دوار الشهداء،
تشمل ما ورد في هذه (المصارحة) من أمور وما كان قد ورد في (مصارحتها)
الأولى حول ترك الانتقاد لعدم ملاءمة الوقت لذلك، إذ تقول:
"عندما
تتعامى عن الحقيقة، هناك حقيقة أمامك لكنك تختار أن لا تراها، أنا في
الحقيقة أتعرض للانتقاد حتى من المعارضين أحياناً لأني أكشف بعض الحقائق
وأنتقد. أنا انتقدت أشياءاً حدثت في الدوار، فقال لي بعض الإخوان وأرسلوا
لي (إيميلات): لماذا تنتقديننا في هذا الظرف الحرج؟ فهذا ظرف كبير ولا نريد
أي صوت داخلي ينتقدنا، فأجبتهم ببساطة: أنا انتقدتكم لكي لا أحتقر نفسي،
وإلا فما الفرق بيني وبين هؤلاء الكتاب الذين يرون الله غفوراً رحيماً على
جماعتهم وشديد العقاب إذا كان الأمر يتعلق بأخطاء جماعة أخرى!! الإنصاف له
وجه واحد فقط لا عدة وجوه. أنت تكون منصفاً في كلمة الحق. ومن يغضب اليوم
يرضى غداً، ومن يرضى غداً يغضب بعد غد."
اللهم أفرغ
علينا صبرا، وتوفنا مسلمين، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، وآخر دعوانا
أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق وآله الطيبين
الطاهرين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق