السبت، 11 أغسطس 2012

ليس عاطفة، بل خيانة..

صوت الثورة

تمر اليوم على المؤمنين في أرجاء المعمورة الذكرى الأليمة لاستشهاد سيد الوصيين ويعسوب الدين، قائد الغر المحجلين، علي أمير المؤمنين، عليه وآله الطاهرين، أفضل الصلاة وأزكى السلام. هي ذكرى ليست ولا يجب أن تكون عابرةً، يكون إحياؤها أشبه بالتقليد السنوي أو الفولكلور أو الطقوس، وإنما يجب أن يكون هذا الإحياء من خلال إحياء روح علي عليه السلام في داخلنا، وما أحوجنا لذلك، لاسيما ونحن نعيش ذاك الزمن الذي قال فيه الرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه وآله الطاهرين: القابض فيهم على دينه كالقابض على الجمر..


في هذه السطور اليسيرة، نطرح بعون الله وتوفيقه بعض المحاور الرئيسية في إحياء روح علي عليه السلام في أنفسنا، وذلك في ثلاثة أجزاء نطرحها إن شاء الله بالتزامن مع أيام المصاب المفجع. فبسم الله وعلى بركة الله نبدأ..


الحلقة الأولى: فزت ورب الكعبة

لعل هذه الكلمات هي الأكثر شهرة من بين ذلك الإرث الفكري الضخم الذي خلفه أمير المؤمنين علي عليه السلام، رغم أنها كانت آخر كلماته قبل أن يتلقى ضربة اللعين ابن اللعين عبدالرحمن بن ملجم المرادي. كلمات فيها ما فيها من المعاني الجليلة التي تلخص جملة من الثوابت والمبادئ التي كانت تتحرك فيها حياة علي عليه السلام فلم تكن مجرد تنظيرات أو خطب مستهلكة. بَيدَ أننا لسنا في هذا المقام بصدد الحديث عن هذه الكلمات الخالدة، وإن كان مقتضى الحديث أن نتعرض لها بعض الشيء في خضم هذا العرض. وإنما ما نطرحه لاسيما وأن الحديث مرتبط بحادثة ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك، وهي الليلة التي تلقى عليه السلام فيها ضربة اللعين، هو أحداث ما قبل الضربة، وما يستفاد منها من معاني، والغرض كما أسلفنا هو أن نحرك أرواحنا في فلك علي عليه السلام، وأن نُحيي علياً في داخلنا قبل أن نحييه بنعي أو عزاء، فما لهذا عاش ولا لهذا صبر ولا لهذا استشهد عليه السلام.

هي الليلة التي وُعدتُ..
وفق ما هو ثابت في رواية الحدث التاريخي، أنه عليه السلام في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك في السنة الأربعين للهجرة المباركة (661 للميلاد)، لما عزم على الخروج لأداء صلاة الصبح في مسجد الكوفة، فإنه وقف للحظات وبنيه يحيطون به، فرمق السماء بنظرة وقال: بلى والله هي الليلة التي وُعدتُ.. ثم تقدم عليه السلام بضع خطوات فمر بإوز له في الدار، فصاحت الإوز، فقال عليه السلام: صوائح تتبعها نوائح.. ثم لما أكمل خطواته أوشك مئزره أن ينحل، فشده وهو ينشد:
اشدد حيازيمك للموت *** إن الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت *** إذا حل بواديكا
كما أضحكك الدهر *** كذلك الدهر يبكيكا

هذه الحوادث هي ثلاث حوادث من جملة حوادث كثيرة وقعت قبل فاجعة ضرب الهامة الشريفة بسيف المجرم المرادي، ارتأينا التوقف عندها لارتباطها المباشر بمحور الحديث لا لكونها أكثر أهمية من بقية الأحداث أو أقل..

كما هو واضح بما لا يدع مجالاً للريبة أو الالتباس، فإن علياً عليه السلام كان يعلم علماً يقينياً أنه في خروجه هذا يُقتل بيد أشقى البرية.. يعرف الليلة والتوقيت والكيفية والقاتل.. أكد تلك المعرفة بالتأكيد أولا على أنها (الليلة التي وُعدتُ)، ثم أشعر من حوله بقرب حدوث المصاب الجلل دون أن يدخل الروع والحزن في قلوبهم (صوائح تتبعها نوائح)، لينتهي بنعي نفسه (اشدد حيازيمك للموت إن الموت لاقيكا)..

والسؤال هاهنا: هل يكون أمير المؤمنين عليه السلام قد ألقى بنفسه في التهلكة، إذ كان يعلم أنه مقتول لا محالة لكنه لم يتراجع؟!

قبل الإجابة على هذا السؤال، لابد وأن نستذكر ولو بعجالة أن العلم اليقيني المتحصل لعلي عليه السلام هو علمٌ لدُنِّي وليس علماً سببياً، وأنه قد ورد هذا العلم إليه عليه السلام عن طريق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (علمني رسول الله ألف باب من العلم، يُفتح لي من كل باب ألف باب) بناء على الاصطفاء من الله جلت حكمته، وهذا يعني بالضرورة أنه لو لم يكن علياً عليه السلام مستحقاً لهذا العلم بإيمانه المطلق وتسليمه التام الكامل لله جل شأنه، لما وهبه الله هذا العلم وهذه المعرفة المرتبطة بمغيَّبات الأمور، ولا يتوافق مع التسليم لأمر الله قطعاً السعي لتغيير مقدرات الأمور لمجرد معرفتها على فرض الاستطاعة، والاستطاعة ها هنا محالة لكون الأمر كله بيد الله ومشيئته.

إذا ما استوعبنا هذا المعنى، فإننا نكون قد أجبنا على جزء من السؤال الافتراضي السابق، وملخص الجواب أنه ليس الذهاب لموقع القضاء والقدر الإلهي وإنْ مع الإدارك والمعرفة تهلكة، وإنما هو سير في مقتضى ما قدر الله وشاء (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل الى مضاجعهم).

أما الجانب الآخر من الإجابة فإنه يتمثل في ملاصقة علي عليه السلام للحق، وهذا ما نلمسه من معنى في قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعد بيعة الغدير (اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار)، فالحق ثابت لا يتحرك ولا يدور كما هو معلوم، وإنما قول الرسول الأكرم (ص) "وأدر الحق معه حيث دار" مبني على أساس اختلاف الناس في رؤية الحق، حيث يرى كل فريق أن الحق إنما يكمن في ما يراه من رأي، لذا جعل الرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه وهو الذي لا ينطق عن الهوى (إن هو إلا وحي يوحى، علمه شديد القوى)، علياً عليه السلام الفيصل في ذلك، فحيثما رأيتم علياً عليه السلام يكون الحق، لأنهما –أي علي والحق- توأمان لا ينفصلان.. وهذا هو المعنى المتحقق من قوله (ص) وأدر الحق معه حيث دار..

وعليه، فإن اقتحامه عليه السلام لصفوف الجيوش حقٌ لا شائبة فيه، ومقارعته للمنحرفين فكرياً وعقائدياً بالحجة والبرهان أو بالسيف والطعان حقٌ لا شائبة فيه، وولوجه حيث تكون المنية إحقاقاً للحق ودحضاً للباطل حقٌ أيضاً لا شائبة فيه.. فعلي مع الحق والحق مع علي..

فالواجب علينا إذن، إذا ما أردنا أن نحيا حياة علي عليه السلام، أن نُعمل عقولنا في البحث عن الحق ثم نتمسك به، فإذا ما التبس علينا الأمر، كان المقياس والمعيار سيرة علي عليه السلام والتي هي امتداد لسنة الرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه، لا غيره، فالحق كما يقول عليه السلام لا يُعرف بالرجال (اعرف الحق تعرف أهله)، ذلك أن السير خلف الرأي المغاير لما أورد كتاب الله تأسيساً على رأي فلان أو فلان من الناس، إنما فيه مجافاة للحق والصواب، ومناقضة لقول الأمير صلوات الله وسلامه عليه (إعرف الحق تعرف أهله)..

إننا نعيش اليوم حالة متقدمة من تداخل المفاهيم لدرجة التبست معها الصورة في أذهاننا، حيث نرى البعض على سبيل المثال يرفع –في غير شعور- هالة القداسة من ثوابت الحق، ليضعها على من يرى أنه يمثل الحق، ثم يُعير كامل عقله لممثل الحق في ذهنه، فإن قال يمينا أو شمالاً كان الحق معه، ولا يكون ذلك إلا في علي عليه السلام والأئمة الأطهار من بعده.. لا ريب أن هذا البعض بطبيعة الحال عند قراءته هذه السطور أو سماع فكرتها سيرد مستنكراً: وهل خالف فلان الحق أم أنك تطعن فيه؟! هذا النوع من الإجابات –من حيث المضمون لا النص- إنما يؤكد ما أشرنا إليه أعلاه من أن هالة القداسة باتت تحيط الرجال عوضاً عن ثوابت الحق.. ولا يُعرف الحق بالرجال..

إننا نرى اليوم ثلة من الشباب المجاهد في الميادين، يقفون أمام بنادق المرتزقة غير آبهين، رافعين الصوت الرافض للظلم، الرافض لبقاء من أحرق كتاب الله ومن هدم بيوته الطاهرة وانتهك حرماتها، الرافض لبقاء من تجاوز الحدود التي بين الله فاستباح الأعراض والدماء والأموال.. ونرى في المقابل، من ينعت هؤلاء المجاهدين بنعوت الجهل والطيش، ونرى من يشكك في كون من يسقط منهم مضرجاً بدمائه شهيداً، بل ونرى من يذهب للقول بإجرامهم لأنهم يتسببون في أذى أهالي القرى الذين يتلقون الغازات السامة في أعقاب مقاومة هؤلاء الشباب.. كل ذلك لأن فلاناً له رأي مختلف!! فإذا ما تبدل رأيه تغيرت الصورة في أذهان هؤلاء البسطاء الذين صادروا عقولهم لصالح عقل واحد، ووضعوا مصائرهم في يد من يقرر عنهم بالنيابة بينما يتفرغون للاستماتة في الدفاع عن هذا الفلان الذي يمثل الحق لا عن الحق نفسه.

إن من يريد أن يحيا حياة علي لا يجب أن ينخدع بالمصاحف إذا رُفعت على أسنة الرماح.. من يريد أن يحيا حياة علي لا يجب أن يغمد سيفه لأن الخارج على الحق هي زوج النبي (ص)، فيخشى الناس تاركاً خشية الله.. من يريد أن يحيا حياة علي عليه أن يجهر برفض الباطل ويعلن الحق وإن ظل وحيداً في الميدان.. من يريد أن يحيا حياة علي عليه أن لا يخشى الموت فيبرر تلك الخشية بمبررات واهية متعلقاً بصورة مكسبٍ هنا أو مكسبٍ هناك، فالمكسب كل المكسب هو رضا الله جل شأنه بإعمال الحق الذي به أمر، ليكون الفوز الذي نطمح إليه هو الفوز الذي نادى به عليه السلام لما فلق السيف هامه: فزت ورب الكعبة، وإلا كان نصيبنا وإن رمنا ذلك الفوز هو دعاء الرسول الأكرم (ص): واخذل من خذله..


اللهم أحينا حياة محمد وآل محمد، وأمتنا ممات محمد وآل محمد، وثبتا على ولاية محمد وآله محمد.. اللهم ارحم شهدائنا الأبرار، وفك قيد أسرانا المجاهدين الصابرين، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار وشر الأشرار، بحق محمد وآله الأطهار.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

--------------------------------
الحلقة الثانية: فضربة بضربة
الحلقة الثالثة: فيتولى الأمر شراركم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق