السبت، 18 أغسطس 2012

القدس تستصرخ الانسانية.. فهل من مجيب

د. سعيد الشهابي
كاتب معارض مقيم في لندن

في زحمة التطورات في البلدان المحيطة بفلسطين تغيب قضية مدينة القدس، وتبدو كأنها مسألة هامشية لا تهم سوى المقدسيين الرازحين تحت الاحتلال. هذا برغم ان الفجر الثوري الذي انطلق في الشرق الاوسط قبل ثلاثة عقود تتمحور فصوله حول الموقف من الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين. واذا كانت التوجهات الوطنية واليسارية قد وقفت ضد ذلك الاحتلال منذ بدء محنة ارض المعراج واقامة الكيان الصهيوني، فان الصحوة الاسلامية المعاصرة وضعت قضية فلسطين في جوهر اهتمامها، ليس على صعيد الشعار والسياسات فحسب، بل على مستوى الممارسة ايضا. كانت باكورة الجوانب العملية لاحتضان قضية فلسطين ما حدث في العام 1979 في غضون اسابيع من انتصار الثورة الاسلامية في ايران. 

 
فقد اتخذ النظام الجديد واحدا من اهم القرارات التاريخية في المنطقة، متمثلا بقطع العلاقات التي كان الشاه قد ابرمها مع الكيان الاسرائيلي، وغلق سفارته في طهران، وفتح السفارة الاولى لفلسطين في العالم. وحتى هذه اللحظة ليست هناك سفارة اخرى للفلسطينيين في اية دولة عربية او اجنبي، وان كانت هناك مكاتب لمنظمة التحرير الفلسطينية. وتزامن مع ذلك تخصيص الجمعة الاخيرة من شهر رمضان من كل عام يوما عالميا للقدس. وعلى مدى 33 عاما تواصلت التظاهرات في ذلك اليوم في البلدان التي اقتنعت شعوبها بضرورة العمل الميداني من اجل فلسطين وابقاء قضية القدس حية في نفوس المسلمين واحرار العالم. وقد دفعت ايران، وما تزال تدفع ثمنا سياسيا باهظا لموقفها هذا من فلسطين، وتعرضت لحصار سياسي واقتصادي متواصل، وبقيت تحت تهديد العدوان العسكري الاسرائيلي حتى هذه اللحظة. ولو غيرت طهران سياستها، بالتخلي عن قضية فلسطين، واعترفت بالكيان الاسرائيلي، كما فعلت مصر وتركيا مثلا، وتخلت عن دعم المقاومة ضد الاحتلال لتغيرت السياسات الغربية تجاهها. انها حقيقة تضيع وسط الضجيج الاعلامي المدعوم بالمليارات النفطية الذي يسعى لتحجيم الاهتمام بقضية فلسطين، ودعم ما سمي 'مسار المفاوضات' الذي ادرك الفلسطينيون بعد عشرين عاما من مؤتمر مدريد انه لم يحقق شيئا لصالح القضية.

وفيما تسخر ايران امكاناتها المادية والسياسية والدبلوماسية لاحياء يوم القدس العالمي يوم الجمعة المقبل، تتضافر جهود قوى الثورة المضادة على مسارات اخرى لاضعاف ذلك الاهتمام، وطرح العامل المذهبي مبررا للتقاعس عن تلبية نداء الواجب تجاه ارض المعراج. انها سياسة لا تتجاهل يوم القدس فحسب بل ان مناسبة الاسراء والمعراج في 27 رجب من كل عام لم تعد تحظى باهتمام يتناسب مع القضية لكي لا يشعر اصحاب القرار السياسي والديني بالحرج من التقاعس عن التصدي للقضية. فالقدس حاضرة في اذهان الساسة الاسرائيليين بوضوح، لا تفارق اذهانهم ولا تختفي من اهتماماتهم. حتى اصبحت قضية المدينة المقدسة واحدة من اهم القضايا التي يجب ان يتضمنها مانفستو المرشحين للرئاسة الامريكية. فكل مرشح مطالب باعلان التزامه بمبدأ تحويل القدس الى عاصمة للكيان الاسرائيلي. ولم يشذ عن هذه القاعدة اي من الذين خاضوا الانتخابات الرئاسية في العقود الاخيرة. وفي الوقت نفسه يندر ان تطرح مسألة القدس من قبل الحكام العرب في خطاباتهم الا نادرا، فهي لا تشغل من الحيز السياسي الا كوة ضيقة تتجاوزها التطورات السياسية والدبلوماسية. ويسعى اعلام قوى الثورة المضادة لاطفاء وهج الاهتمام بقضية فلسطين والقدس في الوجدان الشعبي، بتجاهلها اعلاميا والغائها حتى من المناسبة الدينية، واشغال الجماهير بما لا يرقى الى الاهتمام، من قضايا هامشية او صراعات بينية او ازمات محلية. انها ظاهرة تؤكد حضور قوى الثورة المضادة على نطاق واسع جعلها قادرة على التأثير على الوجدان الشعبي في ما يخص واحدة من اهم قضايا العالمين العربي والاسلامي. ولذلك تراجعت قضية فلسطين على المستوى الجماهيري بشكل كبير، ولم تعد تحظى بالاهتمام الذي كان متوفرا لها في السابق، عندما كانت تمثل، لدى جيل رواد نهضة الامة، المنطلق الاساس لامور عديدة. فهي اولا عنوان لظلامة امة بشكل فاضح لا يمكن تبريره، فكيف يمكن تبرير اقتطاع وطن يسكنه شعب، ومنحه لشعب آخر بذريعة ان الاخير تعرض لظلامة تاريخية على ايدي اقوام آخرين؟ ثانيا: انها تعبر عن واحدة من أشد حالات الامة تخلفا وضعفا، عندما كانت خاضعة للاستعمار الغربي، والبريطاني بشكل خاص، ثالثا: انها اصبحت تمثل تحديا اخلاقيا وقيميا للنخب الحاكمة والسياسية التي عجزت عن التصدي للظلم والاحتلال. رابعا انها تجسيد مصغر لاستباحة امة مظلومة، بدأت تلك الاستباحة بتفتيت الامة، ثم استعمار اراضيها، تلى ذلك استباحة خيراتها، حتى وصلت الى اكثر مستوياتها هبوطا بالهيمنة على منابع نفطها الذي هو مصدر ثروتها الوحيد تقريبا.

القدس، عاصمة فلسطين، هي اليوم عنوان الظلامة التاريخية للامة. وبالامكان اعتبارها المنطلق لاستعادة الوعي الجماهيري بتلك الظلامة، وهو وعي، ان تحقق، قد يمكن توجيهه على طريق التحرير واستعادة المكانة المسلوبة والاراضي المحتلة. فمنذ حرب 1967 لم يتعرض الكيان الاسرائيلي لتحديات حقيقية تلامس وجوده او تتحدى شرعية وجوده، الا عندما اعلنت دولة واحدة سحب اعترافها به وقطع العلاقات معه، واعلان وقوفها مع الشعب الذي احتلت ارضه وبعثرته في اصقاع الارض. وطوال العمر التاريخي لهذا الكيان كان يفرض نفسه على المنطقة والعالم بالابتزاز العسكري المؤسس على الالتزام الامريكي المتواصل بحفظ التفوق العسكري الاسرائيلي على الدول العربية المجاورة. ولم يواجه هذا الكيان انتكاسة كالتي تعرض لها عندما اراد احتلال جنوب لبنان في 2006، فتصدت له المقاومة الاسلامية هناك وحالت بينه وبين تحقيق النصر كما اعتاد تحقيقه في كل مرة يغزو فيها ذلك البلد المبتلى. وجاء صمود اهل غزة بعد ذلك بعامين ليغرس في نفوس زعماء ذلك الكيان حالة عميقة من الشك والرعب جعلتهم يعيدون النظر في ما كانوا يعتبرونه ثوابت في استراتيجياتهم العسكرية والسياسية. ويعتقد هذا الكيان انه في حرب مفتوحة مع القوى الرافضة لوجوده، متمثلة اساسا في ايران والمجموعات الجهادية المقاومة، ولذلك يخطط دائما للقضاء عليها باساليبه التي لا تتوقف عند حد، بل تشمل الاغتيال والعدوان خارج اطر القانون بدون خشية ما دام الدعم الامريكي متوفرا. انه يعتمد على التخويف من جهة والدعم الامريكي ودبلوماسية الدول العربية الساعية للتطبيع معه من جهة اخرى، لادخال الخوف في نفوس القوى التي يفترض ان تتخذ قرارات بمقاطعته وعدم الاعتراف به، بالايحاء بان امريكا ستقف ضدهم وربما تلغيهم من الحراك السياسي المقبول. ايا كان الامر فما تزال هناك قوى لا ترهبه، بل تتحداه يوميا. وما صمود اهل غزة الا مصداق لذلك التحدي، برغم سياسات التجويع التي يمارسها بحقهم واصراره على غلق المعابر التي تساعدهم على العيش.

ان يوم القدس العالمي مشروع استراتيجي، لانه يختصر القضية الفلسطينية بالمدينة المقدسة التي تمثل البعد التاريخي لاهمية فلسطين، كحاضنة للاديان السماوية وملتقى للحضارات، وارضية للتعايش السلمي بين اتباع الاديان. الجشع الصهيوني لم يكتف باحتلال الشطر الاكبر من فلسطين في 1948، ثم القسم الشرقي منها في 1967، بل يسعى لقضم المناطق الاخرى ويسعى باستمرار لتفعيل مقولة ارض الميعاد الممتدة من البحر الى النهر. لقد اصبحت مدينة القدس بؤرة استقطاب بين مشروعين: تحرري استقلالي انساني، وآخر استعماري جائر يؤسس سياساته على منطق القوة والغلبة والقهر، ويتجاوز القيم الانسانية ولا يقبل بحدود تمنع تمدده الجغرافي والثقافي. هذا المشروع يجسده الاحتفاء السنوي بيوم القدس العالمي من قبل شعوب نائية، تمثل امتداد دين الاسلام والانسانية الفطرية، وقدرة ما تحتويه المدينة من شعائر دينية على جذب قلوب الآخرين اليها. ويمكن القول ان هناك سباقا على الزمن بين اتباع المشروعين من اجل تحقيق ارضية دولية تدعم هذا الطرف او ذاك. وسوف يستمر الصراع على الارض المقدسة، وليس مستبعدا ان تتحول القضية الى صراع دولي مسلح، خصوصا مع تطورات اوضاع المنطقة، والتهديدات التي يطلقها كيان الاحتلال بشن العدوان ضد الدول الاخرى التي ترفض الاعتراف بوجوده. فحالة الاستقطاب غير المسبوقة في العلاقات الدولية بسبب الازمة في سورية تخرج تدريجيا عن السيطرة وقد تؤدي لحرب اقليمية او حتى دولية. هذه الحرب، ان حدثت، لن تنفصل عن قضية فلسطين ومدينة القدس اللتين بقيتا تمثلان تحديا لجميع الاطراف المعنية. ويمكن القول ان السياسات الامريكية التي حولت واشنطن الى طرف مباشر في الصراع، مسؤولة الى حد كبير عن هذا الاستقطاب الخطير.

البعض ينظر الى يوم القدس انه 'مشروع ايراني' وبالتالي فليس من المناسب التفاعل معه لأسباب واهية فرضها الغربيون لاسبابهم الخاصة. صحيح ان مشروع 'يوم القدس العالمي' انطلق من طهران الثورة، واستمر ثلث قرن حتى الآن، ولكن الواضح ايضا ان قضية فلسطين تحظى بمركزية متميزة في المشروع السياسي الايراني ذي الطابع الديني. وفي الاحوال الطبيعية فان ذلك يمثل امرا ايجابيا للامة. فكما كان هناك ارتياح عندما بعثت تركيا قبل عامين ناقلة سفينة الاغاثة 'مرمرة' الى غزة، ودخلت في مواجهة سياسية مع الصهاينة بعد اعتدائهم عليها وقتلهم تسعة من المتطوعين الاتراك، فان تصدي ايران لقضية القدس يجب ان يحظى باهتمام وتقدير وتعاون، بدلا من النظر اليه بسلبية. فالجميع يعلم ان ايران تدفع ثمنا باهظا لذلك التصدي، يتجسد في ما تتعرض له اليوم من مقاطعة اقتصادية وحصار وسياسي، وتهديد مستمر بالحرب من قبل الاسرائيليين. ولطالما وجهت الاتهامات للانظمة العربية بانها متقاعسة ازاء هذه القضية، بل متواطئة وتسعى للتطبيع مع الصهاينة. ولذلك وقفت المعارضات العربية، خصوصا الاسلامية منها، بوجه هذه الانظمة التي تخلت عن قضية فلسطين. وفي مرحلة ما بعد ا لثورات، يفترض ان تكون قضية فلسطين قد عادت الى الواجهة لان الاسلاميين امسكوا بزمام الحكم في العديد من الدول. ولكن يبدو ان ثمة تقاعسا في اوساط الاسلاميين ازاء هذه القضية المحورية، لاسباب عديدة من بينها انهم يخشون مواجهة الولايات المتحدة، ويرون في تلك المواجهة تهديدا لوجودهم السياسي في السلطة. حركة النهضة التونسية اقرت مؤخرا مبدأ تجريم التطبيع مع 'اسرائيل' وهو خطوة ايجابية على طريق تفعيل دور الامة في افشال محاولات التطبيع مع كيان غاصب. ولا يكفي ان ينحصر القرار بحركة النهضة، بل المطلوب ان يتحول الى سياسة يتبناها الحكم، ليس في تونس فحسب، بل في مصر ايضا. ومصر هي خط المواجهة الاول مع الكيان الاسرائيلي، وكان الكثيرون ينتظرون من جماعة الاخوان المسلمين قرارا تاريخيا بقطع العلاقات مع الكيان الاسرائيلي، فورا بدون تأخير. واذا لم يستطيعوا استصدار قانون حكومي بذلك، فان الجماعة مطالبة بتوضيح مواقفها المحددة ازاء عدد من القضايا: اولها العلاقات مع الكيان الاسرائيلي، ثانيها: اتفاقات كامب ديفيد، ثالثها: الموقف من القدس، واقعها ومستقبلها وماذا تستطيع فعله ازاء ارض المعراج. في الاسبوع الماضي كان هناك استطلاع رأي بموقف 'الثبات' اللبناني، للاجابة على السؤال: هل تنتصر مصر للاقصى بعد انتخاب محمد مرسي رئيسا؟ وكان المدهش ان 90 بالمائة من الذين صوتوا اجابوا بالنفي، وهذا امر مقلق. فاذا كان الشعور الشعبي العام بان مصر الاخوان لن تنتصر للأقصى، فان ذلك مؤشر سلبي لمدى ثقة الجماهير في اكبر الحركات الاسلامية واقدمها. ان بامكان الاخوان تعبئة الرأي العام المصري باتجاه فلسطين بما يرجح كفة الثورة لصالحهم ويضعف الاطراف المتأمركة والمتصهينة التي اصبحت تفرض اجندتها على الرأي العام مستفيدة من الامكانات الاعلامية والسياسية الكبيرة التي تتيحها اموال النفط. وسوف يرفع ذلك المشروع حظوظهم السياسية ويضعف الآخرين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق